(إلى رابعة) يقترب العيد وتبتعد الذاكرة. تعود الى زمن الطفولة الشيّقة الشقيّة الشاقّة. كأن حرف الشين هنا يختزل حلاوات العيش ومراراته، وكأنّ الطفولة خزّان كل الآتي غداً... لست ماضوياً وإن كان الحنين يغويني غواية ابن آدم بالعودة الى جنّته الأولى التي غادرها مطروداً بفعل تفاحة. كذلك يفعل بنا العمر يطردنا من جنّة الطفولة الى أرض الأعمار الآتية، الى شباب وكهولة وشيخوخة وكلها مراحل فيها الحلو وفيها المر، لكنها لا تضاهي أبداً جنة الطفولة المغسولة دائماً بمطر الأحلام. من أحلام الطفولة الجميلة «قجةُ العيد» لتي كنا نجمع فيها القروش والليرات وما يجود به الأهل والأقرباء طيلة عام كامل استعداداً لعشيّة العيد والملابس الجديدة والألعاب والأراجيح وساحة اللهو العذب البريء والضحكات الطالعة من جوف القلب عصافير محلّقة في الأرجاء، ولم تكن القجّة اداة لجمع المال، كانت مكاناً لجمع الأحلام. كانت القروش القليلة أحلاماً يفسرها كلٌّ كما يحب ويهوى، وكانت حينها قابلة للتحقيق. هل أفسدت «العولمة» الاستهلاكية زمن الأعياد وحولتها مجرّد مناسبات تجارية؟ أظن العيد الحقيقي في الداخل لا في الخارج، في الأعماق لا على السطح، تماماً مثل القجّة التي لم نكن نجمع فيها فلوساً بل أحلاماً تظل خضراء نضرة مهما تغيّرت طقوس العيش وتبدلّت أشكاله. قلبي قجّةُ عيد على مهل إكسريه لك ما فيه من ضفاف وحدائق ومن عشب تمادى في الندى. لك طفولتي المتناثرة في البلاد ورجولتي المصابة بالحنين والحبق لك أغنيتي ولحنُ طين عتيق وفراشةٌ ترفرف في عينيك وزغاريد تجيء من فرح قديم توسّع أمامك الريح وتشعل في يباب الروح ألف حريق تُعلن أنك المبتدى والمنتهى المشتهى وشرفةُ هذا المدى المترامي في دمي. قلبي ليلة عيد أضيئيه بقبلة أو بابتسامة أكّدي صفوه بضحكة من ينابيع زيّني شجرته العارية بمصابيح يديك سأرشُّ ماء زهري على عشب سمرتك الخضراء تاركاً عند العتبة نهراً وسيماً وشال فُتوة مضمخة بياسمين القرى كلما شممته تفتّح الجوري وانشقّ صدر الضياء.