إنني ممّن يظنون بحق أن العلاقات العربية الإيرانية لم تأخذ ما تستحقه من أسباب الاهتمام العادل والدراسة الموضوعية. وبداية أسجل أنني ممّن يدركون أن ل «الفرس» أجندة سياسية معاصرة لها بعدان إقليمي ودولي ولها أداتان سياسية ودينية، كما أنني أعترف بأن العلاقات بين طهران والعواصم العربية خضعت، إلى حد كبير، لمنطق الاستقطاب الدولي وتأثيرات القوى الكبرى على سياسة الطرفين العربي والإيراني، وأنا مقتنع أيضاً بأن «إيران الثورة الإسلامية» تسعى إلى أن تقود «الدولة الفارسية» العالم الإسلامي كله. وأتذكر المقولة الشهيرة للإمام الراحل الخميني عندما استعرض قيادات الأمة الإسلامية من «العرب» إلى «الكرد» إلى «الترك» مشيراً إلى أنه جاء الدور على «القومية الفارسية» لقيادة الأمة الإسلامية. لهذا لا يتصور القارئ أنني واحد من دراويش العمل الإسلامي المشترك في مواجهة العمل العربي الواحد، بل إن خلاصة ما أريد أن أذهب إليه من هذه السطور هو أن أضع العلاقات العربية - الإيرانية في إطارها الصحيح بدلاً من الإفراط في الحساسية أو المغالاة في العداء أو المضي وراء التصور العاطفي الذي يعطيها على الجانب الآخر أكثر مما يجب، فإيران ليست حليفاً كاملاً كما أنها ليست عدواً بأي معنى من المعاني. قد تكون قوة منافسة امتداداً للمواجهة التاريخية بين القوميتين العربية والفارسية ولكنها لن تكون أبداً مصدراً للقلق الأصلي، إذ إنني أظن أن «الدولة العبرية» كانت ولا تزال وستبقى هي المشكلة الأولى للأمة العربية، بينما يمكن أن تكون إيران فقط مصدر قلق ثانوياً لعدد من الدول العربية في بعض المراحل. وبعد هذه المقدمة دعني أوضح ما أريد أن أذهب إليه من تفصيل موجزاً ذلك في النقاط التالية: أولاً: إن الذين يدرسون تاريخ بلاد فارس وبداية اندماجها في العالم الإسلامي سيكتشفون أن المشاعر القومية المتنامية لدى إيران ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب بل إن العصر العباسي يزخر بنماذج الوجود الفارسي ومحاولة فرض سطوته على «الخلافة الإسلامية» ذات الطابع العربي حتى شاعت تعبيرات مثل «الموالي» ثم «العجم» في إشارة إلى وضوح الروح الفارسية الكامنة تحت مظلة الإسلام وانفتاحه وتوسعاته في تلك العصور، أما اليوم فإنني أتحدى من يجرؤ على ترديد تسمية «الخليج العربي» أمام الإيرانيين فهم يصرون في عنصرية بغيضة على تسميته «الخليج الفارسي» بل إنهم رفضوا حلاً وسطاً بين العرب وإيران بتسميته «الخليج الإسلامي»! كذلك فإن إصرار إيران على إلباس سياستها رداءً دينياً بل وطائفياً خلق حساسيات شديدة لدى عدد كبير من الدول السنّية في المنطقة كما أن منطق «تصدير الثورة» الذي اتخذته إيران أسلوباً للتعامل مع الغير أدى إلى إثارة رواسب الماضي وإحياء المخاوف التاريخية تجاه الدولة الفارسية. ثانياً: إنني أظن أن الاشتباك السياسي بين العرب وإيران ضروري للغاية فحين تكون أمامك قوة منافسة أو حتى حين تجري محاولات إحياء خصومة سياسية فإن الأفضل هو الاقتراب من الطرف الآخر واقتحام المشكلة بدلاً من الابتعاد والمقاطعة والعزلة، فالدعوة إلى الاقتراب من إيران وفتح جسور التواصل والحوار معها لا تعني أبداً الموافقة على سياساتها أو الغفلة عن أجندتها بل العكس هو الصحيح، لأن بيننا وبين إيران جوار جغرافي ومصالح مشتركة ولدينا شروط يجب أن نضعها في أولويات الحوار العربي مع طهران تبدأ بضرورة اعتراف إيران بعروبة العراق والتوقف عن العبث باستقرار وأمن بلاد الرافدين، ثم نطالبها أيضاً بالكف عن تهديد مملكة البحرين واختلاق القصص الوهمية التي تمس سيادة ذلك القطر العربي الخليجي الشقيق، ثم نطالب إيران بحسم مسألة الجزر الإماراتية واللجوء إلى التحكيم الدولي والتوقف عن سياسة فرض الأمر الواقع باحتلال تلك الجزر العربية من دون سند تاريخي أو قانوني، ثم بعد ذلك يصبح العرب وإيران شركاء بينهم من أسباب التعاون والتضامن ما يجعل أجواء الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أفضل بكثير مما هي عليه الآن. ثالثاً: إنني أدهش - ومثلي ملايين العرب - من انفراد إيران بالتحدث باسم المنطقة واحتكار الحوار السلبي مع الولاياتالمتحدة الأميركية والغرب عموماً مع أن هناك شراكة عربية لا يمكن تجاهلها أو إغفال قيمتها، فالحديث عن مستقبل منطقة الشرق الأوسط يبدأ بالعرب قبل غيرهم، فهم الأغلبية الساحقة في المنطقة حتى ولو كانوا منقسمين على أنفسهم غير قادرين على صياغة سياسة مستقرة للعمل العربي المشترك حتى الآن! ولكن يبقى العرب في كل الأحوال أصحاب كلمة أساسية في إقرار مستقبل المنطقة وتحديد ملامحه، ولا يمكن رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط من خلال حوار إيراني غربي أو تحالف إسرائيلي غربي على الجانب الآخر والعرب كالأيتام على مائدة اللئام! فأنا من المطالبين باقتحام الموقف برمته وفرض أطروحات عربية مهما كانت المصاعب والتحديات. رابعاً: يزعم الإيرانيون أن أزمة الملف النووي تقع فقط في نطاق علاقات إيرانبالولاياتالمتحدة الأميركية والقوى الغربية الأخرى، ونحن نزعم أن العلاقات بين طهرانوواشنطن مرشحة للتحسن في السنوات المقبلة لأن هناك مصالح متبادلة بينهما تزيد في تأثيرها عن ضغوط إسرائيل على واشنطن من جانب آخر. ونحن نرى من جانبنا أن قضية الملف النووي الإيراني ليست حواراً ثنائياً بين إيران وغيرها ولكنها قضية إقليمية بالدرجة الأولى تستدعي موقفاً توافقياً من القوى الأخرى في الشرق الأوسط وفي مقدمها العرب. وما زلت أذكر أن القاهرة استقبلت رئيس وزراء إسرائيل السابق ايهود أولمرت منذ سنوات في أول زيارة له لمصر، والإسرائيليون - كما هو معروف - متخصصون في إحراج مصر، فهم يضربون المفاعل النووي العراقي بينما بيغن والسادات مجتمعان في أسوان، وحدث الأمر نفسه عندما بدأت إسرائيل جريمتها ضد الشعب الفلسطيني في غزة غداة زيارة تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل الى القاهرة حتى توحي الدولة العبرية للعرب بأن مصر كانت على علم مسبق بالجريمة الإسرائيلية، والشيء نفسه فعله أولمرت حين زار القاهرة للمرة الأولى بعد اجتياح قواته بعض قرى الضفة الغربية في شكل وحشي، ويومها وقف الرئيس المصري حسني مبارك في بداية المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ليعلن إدانته الكاملة وبأقوى العبارات لسياسات إسرائيل العدوانية والعنصرية والاستيطانية من دون أية كلمة ترحيب بالزائر غير المرغوب فيه، ثم أضاف مبارك يومها مباشرة قوله: «إذا كان لدى إسرائيل ترسانة نووية لا تعلن عنها ولا تنكر وجودها في الوقت ذاته Constructive Ambiguity، وكذلك إذا كانت إيران تسعى إلى حيازة برنامج نووي على الجانب الآخر فإننا نحن العرب يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي متفرجين بل لا بد من صياغة موقف عربي واحد تجاه الوجود النووي خصوصاً أن للعرب مبادرة طرحتها أكثر من عاصمة عربية للمطالبة بجعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمها السلاح النووي بالطبع». خامساً: إن اختلاف وجهات النظر تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي وأساليب مواجهته مسألة تستحق الاهتمام لأن إيران لا تتحمس لمواقف الدول العربية المعتدلة وتتخذ نهجاً واضحاً في دعم «حزب الله» وتأييد حركة «حماس»، فهي تقف إلى جانب المقاومة وترفض إلى حد كبير المسار السياسي لحل الصراع، ولو نظرنا الى زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الأخيرة الى لبنان لاكتشفنا حجم الدعم الذي توليه طهران لحلفائها في المنطقة وتطلعها إلى الدولة اللبنانية لكي تكون نموذجاً للسيطرة الشيعية في أول دولة عربية، وأظن أن العلاقات المصرية - الإيرانية تقوم على خلاف أساسي ينطلق من فلسفة كل من الدولتين تجاه أساليب المواجهة مع إسرائيل وحل الصراع العربي المزمن معها، ولقد حضرت شخصياً مؤتمراً في طهران لنصرة المقاومة الفلسطينية منذ سنوات عدة وفوجئت أن مرشد الثورة شن على «مصر السادات» هجوماً مباشراً منتقداً بشدة سياسات اتفاقات «كمب ديفيد» معتبراً أنها سبب تدهور الموقف في المنطقة. هذه ملاحظات خمس أردنا منها أن تكون كاشفة لجوهر الخلاف العربي الإيراني خصوصاً وأنني ممن يعتقدون أننا نحن العرب لم نكن بالذكاء المطلوب لتوظيف العلاقات المتنامية بين دمشقوطهران لمصلحة الموقف العربي عموماً وقيام علاقات طيبة بينهم وبين دول الجوار وفي مقدمها إيران وتركيا. إنني أظن في النهاية أننا لم ندر ملف العلاقات العربية الإيرانية على النحو الصحيح والمسؤولية تقع في ذلك علينا وعليهم، وآن الأوان لإعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة وفقاً لحقائق التاريخ والجغرافيا والسكان والمصلحة العليا للأمة الإسلامية وشعوب الشرق الأوسط. * كاتب مصري