تصاعد الحديث عن المسيحيّين المشرقيّين وواقعهم ودورهم ووجودهم المهدَّد في الآونة الأخيرة. ففي بيروت عقد مؤتمر إحياء الدور المسيحي في المشرق العربي، وفي روما عقد سينودوس الفاتيكان لمسيحيّي الشرق من أجل استشراف مستقبل وجود هؤلاء ودورهم والسبل الآيلة إلى تعزيز هذين الوجود والدور واستكناه الهواجس التي تكتنف غالبيّة المسيحيّين المشرقيّين. تفصح الخطب والأفكار المتداولة عن أوهام تخالط الحقائق وعن مقولات غير واقعيّة وغير تاريخيّة. منها مقولة اضطهاد المسيحيّين في العالم العربي، والواقع أنّه إذا كان لدى المسيحيّين العرب ما يقلقهم في هذه المرحلة التاريخيّة الدقيقة من تاريخ العالم والمنطقة العربيّة تحديداً، إلاّ أنّ من الخطأ الاعتقاد، كما رأى مشير باسيل عون في «السفير»، أن المسيحيّين اللبنانيّين يحملون في باطن وعيهم قلق الجماعة المضطهدة منذ أعتق الأيام، ولقد ابتلاهم الدهر بأدهى المكائد السياسيّة في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وهم في حيرة إزاء تخيُّر النهج السياسي الأنسب لضمان ديمومتهم السياسيّة. صحيح أن المسيحيّين المشرقيّين في تناقص تصاعدي، فعددهم لم يعد يتجاوز الاثني عشر مليوناً بين أكثر من 300 مليون من الديانات الأخرى، وهم مهدَّدون بالاندثار والرحيل عن ديارهم حتّى في القدس مهد المسيحيّة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ المسيحيّين، وإن لم يتمتّعوا بالمساواة الشرعيّة والعمليّة في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، لم يعرفوا إرهاباً فكرياً ولا يروي التاريخ العربي حادثة واحدة يمكن تشبيهها باضطهادات محاكم التفتيش الإسبانيّة للمسلمين واليهود أو اضطهادات الكاثوليك والبروتستانت لبعضهم البعض في القرون الوسطى. فالتاريخ العربي إجمالاً استوعب التعدّد والاختلاف وإن في نطاق محدود، ولم يضطهد المسيحيّون إلا في أوقات الانحطاط والتراجع الحضاريّين وفي ظلّ الاحتلالات الأجنبيّة. اضطُهدوا بفعل تحريض وتدخل الدول الكبرى والسلطنة العثمانيّة في القرن التاسع عشر. واضطهدوا من قبل مرجعيّاتهم الطائفيّة ذات المنحى الأصولي الظلامي، واضطُهدوا في الحروب الأهليّة التي كان يقف وراءها الاستعمار تخطيطياً وتحريضاً من لبنان إلى فلسطين والسودان، وهم يُضطهدون الآن في العراق في ظلّ الاحتلال الأميركي، كل ذلك من أجل الإساءة إلى الحضارة العربيّة وفرض الأحاديّة الأصوليّة على الآمّة العربيّة لإبقائها رهينة التخلّف والنزاعات الأهليّة والسيطرة الأجنبية. ومن مقولات الخطاب السياسي الراهن بصدد المسيحيّين المشرقيّين مقولة وجودهم الهامشي والدعوة إلى احتضانهم وصونهم في إطار جامعة الدول العربيّة ومؤسّساتها، كان هؤلاء جاليةً أجنبيّة مقيمة على الأرض العربيّة غير ذات جذور في الحضارة والتاريخ العربيّين. وفي ذلك تجاهل مريب لحقيقة موقع المسيحيّين الأساسي والمركزي على امتداد هذين التاريخ والحضارة. فقد كان لهم حضارتهم وشعراؤهم وثقافتهم منذ ما قبل الإسلام، وهم استمرّوا كذلك بعد الإسلام، حيث أسهم مثقّفوهم وتراجمتهم إسهامات كبرى في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولم يكونوا يوماً كياناً دخيلاً على هذه الحضارة، بل هم تفاعلوا معها وحملوها دائماً في وجدانهم ثقافة ولغةً وتراثاً. وتصدّوا في عصر النهضة العربيّة لإحياء اللغة والتراث العربيّين بعد قرون من الانحطاط، فكان منهم جرمانوس فرحات الذي يعود إليه الفضل في ترسيخ اللغة العربيّة واعتمادها في المدارس في عصر غلبت فيه العجمة على العربيّة. وكان منهم أيضاً بطرس البستاني الذي أسهم في تحديث العربيّة بقاموسَيه «محيط المحيط» و«قطر المحيط». فضلاً عن ذلك، تميّز المسيحيّون بدور طليعي في إنشاء المطابع والمدارس والجامعات والصحف والمجلاّت وتأسيس الجمعيّات الثقافيّة والصالونات الأدبيّة، ومن بينهم خرجت طلائع النهضة النسائيّة. ولم يتوانوا كذلك عن الجهاد في سبيل وحدة العرب القوميّة ودرء الخطر الصهيوني، فكان منهم طلائع القوميّين والمواجهين للصهيونيّة ومخطّطاتها. إنّ تراجع أعداد المسيحيّين في الأقطار العربيّة ظاهرة مريبة فعلاً، ولكن يجب أن تُدرس وتعالَج في إطار كونها وجهاً لأزمة بنيويّة شاملة تعتور الأمّة بفعل تخلّفها عن ركب الحداثة وتعثّر نهضتها الاجتماعيّة والسياسيّة وعجزها عن إنجاز مشروع وحدتها القوميّة. وليس غريباً أن يتزامن ذلك مع انكفائها إلى عصبويّاتها الإثنيّة والطائفيّة والمذهبيّة. كما ليس غريباً كذلك أن ترافق هجرة المسيحيّين هجرة موازية لبقيّة الطوائف نظراً لضحالة البيئة العربيّة وانسداد آفاق التقدّم والإبداع أمام الإنسان العربي. فالمسيحيّون وغيرهم على السواء إذ يهاجرون إنّما يفرّون من مجتمعاتهم الهادرة للحقوق والكرامات والطاقات إلى مجتمعات تفتح أمامهم سبل التقدّم والنماء والحريّة والعيش الكريم. من هنا، إنّ أية قراءة لمشكلة المسيحيّة المشرقيّة وانكفائها عربيّاً ستبقى في رأينا غير ذات جدوى إذا لم تذهب إلى جذر الإشكال وتنصرف إلى العمل والجهاد من أجل خلاص الأمّة العربيّة من فواتها التاريخي وارتباكها إزاء الهجمة الصهيونيّة وقصورها عن بناء الدولة المدنيّة، دولة المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان. ولن تجدي نفعاً مناشدة المسيحيّين البقاء في ديارهم كي يبقى للعروبة معنى وللعرب هويّة، فإنّهم سيظلّون وغيرهم يهاجرون طالما بقي الواقع العربي على ما هو عليه من تخلّف وانسداد وخواء.