حدث المشهد على الشكل الآتي تقريباً: المكان، مدينة سنليس التي تبعد 50 كلم الى الشمال الغربي من باريس، في طريق الرحلة الى لندن. والأشخاص ثلاثة يهمنا منهم اثنان: جان - جاك روسو ودافيد هيوم. والزمان أواسط القرن الثامن عشر. كان الفيلسوفان ورفيقهما متوجهين الى العاصمة الإنكليزية والغاية لجوء روسو الى هناك، بعدما نفته مدينة جنيف ولم ترحب به مدينة باريس. أقام الثلاثة في غرفة واحدة. وعند منتصف الليل، وكان يفترض ان يكونوا قد غفوا، صرخ هيوم فجأة: «لقد قبضت على روسو». فهلع هذا إذ سمع الصراخ واعتقد أن زميله الاسكتلندي متآمر للقبض عليه. لقد طمأنه الآخر مؤكداً انه انما كان يحلم ويتكلم في نومه، لكن روسو لم يصدق، وان كان وجد أن ليس ثمة ما يمكنه فعله. وهكذا عاش الشهور التالية، ضيفاً على هيوم، حائر السمات شديد القلق معتقداً ان هذا الأخير سيسلمه الى السلطات. وطبعاً لم يسلّم هيوم روسو الى أية سلطات، فهو كان لا يقل عنه تعرّضاً للاضطهاد. لكن الحكاية تكشف الكثير من طبيعة روسو القلقة الشكاكة، وأيضاً من سمعة هيوم المتقلبة وقدرته على إثارة الشكوك لدى الآخرين. ولعل هذا العنصر الأخير هو ما جعله يحرم من الانخراط في التدريس الجامعي، حتى حين كانت كراسي الأستاذية تخلو ويكون هو المرشح الوحيد. ومع هذا، كان هيوم، ولا يزال، صاحب أعظم المؤلفات حول الطبيعة البشرية وحول «التفاهم الإنساني» وحول الأخلاق. وكان واحداً من كبار فلاسفة التنوير الإنكليز، هو الذي عاش ردحاً في فرنسا، وشارك الموسوعيين جهودهم واعتبر للحظات منهم. دافيد هيوم، الذي سيقول عنه عمانوئيل كانط: «هيوم هو الذي أيقظني من سباتي»، كان هو إذاً، من أيقظ أيضاً روسو من سباته، ولكن في مناسبة أخرى وبمعنى آخر تماماً. والحال أن هيوم لم يوقظ روسو وكانط فقط، بل أيقظ جزءاً كبيراً من الفكر الأوروبي، وخصوصاً بفضل كتابه الأساسي «مبحث خاص بالفهم الإنساني» الذي يعتبر من أمهات الكتب الفكرية التي اهتمت بالإنسان كفاعلية أساسية في الكون، واهتمت بالإنسان من الداخل، في أخلاقه وحضوره وعلاقاته، وتأمله الكونَ والتاريخ. نشر هيوم كتابه «مبحث خاص بالفهم الإنساني» في عام 1748 وكان في السابعة والثلاثين من عمره. وكان في طبعته الأولى يحمل عنواناً مختلفا بعض الشيء هو «بحوث فلسفية في الفهم الإنساني»، وكان يشكل في الأصل إعادة كتابة جذرية لعمل كان هيوم كتبه قبل ذلك، وكان يعتبر عملاً رئيساً من أعمال الفلسفة الإنسانية وهو كتابه «مبحث في الطبيعة البشرية»، ولا سيما الجزء الأول من هذا الكتاب. وهذا الكتاب الأخير كان هيوم نشره للمرة الأولى في عام 1738، ثم عاد وأنكره منكباً فقط على جزئه الأول مشتغلاً عليه معمّقاً إياه، ضاماً اليه بعض الفقرات والأفكار التي كانت موزعة على العمل الأول. وهذا ما يجعل «مبحث خاص بالفهم الإنساني» أشبه باختصار ومزج لما في الكتاب الآخر. لكن هيوم أضاف هنا ثلاث نظريات جديدة، لم يكن لها وجود - أو كانت مشتتة وغير واضحة - في الكتاب الأول، ومن الواضح أن صورتها تطورت لديه من خلال اقامته في فرنسا واطلاعه على أفكار التنوير عن كثب، واشتداد ايمانه بالانسان. أو هذا، على الأقل، ما سيكتبه هو بنفسه في سيرته الذاتية التي أصدرها عام 1776، أي في عام وفاته نفسه. ومن الواضح ان ما في كتاب «مبحث في الطبيعة البشرية» كان هو الممهد لأعمال رئيسة أصدرها هيوم لاحقاً، ومن بينها «محاورات في الدين الطبيعي» و «التاريخ الطبيعي للدين» وحتى «محاولات في التجارة». أما النظريات الثلاث التي بدأت مع «مبحث خاص بالفهم الإنساني» والتي لم يكن لها وجود في كتابات هيوم من قبل فهي نظرية «حرية الاختيار» وتلك المتعلقة ب «العناية الإلهية والحياة في المستقبل» وأخيراً، نظرية «المعجزات» التي سيفرز لها لاحقاً كتاباً خاصاً أثار ضده نقمة الكنيسة وجعله يتهم بالهرطقة والإلحاد، هو الذي لطالما كان أنكر على الملحدين إلحادهم، وعبّر عن نزعة تعترف بوجود الله، من منطلق «لا أدري» على الأقل، وفي استقلال عن الأديان كلها. غير أن هذا لم يكن الأساس في «مبحث خاص بالفهم الإنساني». الأساس هنا كان ما يبدأ به هيوم بالتميز بين الانطباعات والأفكار، حيث يقول ان «لكل فكرة بسيطة انطباعاً بسيطاً يشبهها، ولكل انطباع بسيط فكرة مطابقة له» وان «كل افكارنا البسيطة في ظهورها الأول مستمدة من انطباعات بسيطة تطابقها وتمثلها تمثيلاً دقيقاً». والمهم في هذا الكتاب أيضاً ان هيوم امتنع فيه عن الغوص في العوامل السيكولوجية لفهم الطبيعة الانسانية، مركزاً اهتمامه على مناقشة أصل الفكرة المتحدثة عن القوة الطبيعية التي هي، بالنسبة الى هيوم، امتداد للانطباع الداخلي الناتج من جهد طبيعي وعقلاني يقوم به الانسان لإدراك الأشياء. وهنا إذ يقلل هيوم من أهمية العنصر التجريبي نفسه، يميل إذاً، الى التركيز على الجهد الخاص الذي يقوم به العقل. وهذا ما يقوده الى فكرة حرية الاختيار، وفي الوقت نفسه الى بحث مسألة الضرورة، وربط الأمرين بمبدأ السببية. واللافت هنا هو ان هيوم من بعد ما يشرح هذا كله يصل الى استنتاج يقول ان الأمر كله، في النهاية، مسألة لغة وكلام لأن «البشر في الحقيقة متفقون تماماً حول هذا» لكنهم مختلفون حول التفسير واستخدام الكلمات التي توضح أفكارهم، وهو في هذا يعتبر، كما يرى البعض، سلفاً لفلاسفة «لغويين» من أمثال فتغنشتاين، كما يعتبر من أوائل وأهم فلاسفة المعرفة في العصور الحديثة. على أية حال، ومهما يكن من شأن تقليل هيوم من أهمية عنصر التجريب، فإنه، وفي خاتمة كتابه هذا نفسه يصل الى استنتاج منطقي يقول ان «لا شيء يمكنه أن يعتبر، وفي الأحوال كافة، واقفاً خارج اطار تجربتنا الانسانية»، معتبراً عنصر التجربة من البديهية بحيث لا يحتاج الى أي تبرير منطقي. ويعتبر هذا الكتاب من أشهر كتب هيوم ومن أكثرها شعبية، على رغم استحالة فصله في نهاية الأمر عن كتابه الأساسي الذي لم يكن سوى تطوير له أي «مبحث في الطبيعة البشرية». * في نص وضعه هيوم أواخر حياته واعتبره «خطبة جناز» خاص به، أي رسالة في نعي ذاته يقول: «لقد كنت رجلاً دمث الطباع، مسيطراً على أعصابي، ذا مزاج منفتح اجتماعي ومرح، قادراً على المودة، قليل القابلية للعداوة، وعلى قدر كبير من الاعتدال في جميع عواطفي، وحتى حبي الكبير للشهرة وهي عاطفتي المتحكمة في، لم يعكر مزاجي أبداً، بصرف النظر عن كثرة ما واجهت من خيبة أمل». ودافيد هيوم ولد عام 1711، في مدينة ادنبره عاصمة اسكتلندا، التي مات فيها عام 1776، في أسرة متوسطة الحال. توفي أبوه باكراً، فربته أمه وعمه. دخل الجامعة حين كان في الثانية عشرة وغادرها خائباً بعد 3 سنوات. أرادت أسرته له أن يدرس الحقوق فدرس الفلسفة، ثم خاض غمار التجارة، التي تركها ليتوجه الى فرنسا حيث درس واختلط بالأوساط الفلسفية، قبل أن يعود الى لندن ويبدأ بنشر كتاباته الفلسفية، وتبدأ خيبات أمله، إذ رشح نفسه مرتين للأستاذية الجامعية فلم ينجح في المرتين. ثم خاض السياسة وتجوّل في أوروبا بمعية قريبه الجنرال سانكلير. وفي سنواته الأخيرة خاضت الكنيسة ضده معركة عنيفة. وفي عام 1767 عيّن، مع هذا، في منصب سياسي رفيع، سئم بعده الحياة العامة وتخلى عن كل شيء ليعود الى أدنبره ويعيش سنواته الأخيرة منهمكاً في إصدار كتبه وتنقيحها.