كان كريم في العمل عندما رنّ هاتفه الخليوي. خطيبته تتصل. لم يلتقيا خلال عطلة نهاية الأسبوع إذ انشغلت مع عائلتها. لكن صوتها لم يأته محملاً بالشوق. وانفجرت غاضبة: أحوالها؟ أحوالها لا تسرّ أحداً سوى من ينتظرون كي يشمتوا بها! ذهل كريم. لا يذكر أنه أغضبها في شيء. صورة خطيبته السابقة؟ نعم، «ما غيرها». عن أي صورة تتحدث الآن؟ صورة «البروفايل» على «فايسبوك»، واضح أنها التُقطت في المعرض الذي شاركت فيه شركة كريم. تلك اللئيمة، تريد أن تُفهم الجميع، كل «أصدقائها»، أنها ما زالت تراه، أنها ما زالت تعني له شيئاً، والجميع يعلم أنه خطب غيرها! تضحك في الصورة، أهو التقطها لها؟ أبداً! ثم ما دخله هو بالصورة التي قرّرت خطيبته السابقة نشرها على «فايسبوك»؟ ما ذنبه؟ لقد أخبرها إنها مرّت وسلّمت عليه، وتحادثا لدقائق أقل من عادية. وذهبت. نعم، الخطيبة الجديدة تعرف. لكن ما يخبرها إياه كريم بينه وبينها، أمر، وما يراه الجميع على «فايسبوك» أمر آخر تماماً. مصيبة! كل التعليقات على الصورة تثني على جمالها، على ضحكتها، وتسألها أين التقطت لها تلك الصورة، وهي تجيب! الآن، الآن يجب أن يتصل بها. فلتَمحُ الصورة فوراً، وإلا! هذه القصة ليست فريدة من نوعها. تتكرر كل يوم. وثمة تنويعات عليها. فتاة اتخذت قراراً «حازماً» بعدم التعليق على أي «بوست» لأي من «الأصدقاء» لأن الآخرين يعتبرون عدم تعليقها على صورهم أو ما يكتب على «جدران» صفحاتهم، تجاهلاً، ويعاتبونها حين تلتقيهم في المقهى. شاب يتذمر من الإضافة التقنية الجديدة على الموقع والتي تظهر، على يمين الشاشة، خيارات عشوائية من ألبومات صورِه، ما يسهّل على والدته اختيار صورة لتعلّق عليها بعبارات أمومية تستجلب نكات الرفاق. الوالدة «صديقة» ابنها على صفحته، وهو قََبِل «الصداقة» مرغماً كي لا يثير ارتيابها، مع أنه لا يجالسها في البيت إلا دقائق معدودة في اليوم، ناهيك بحذر العديد من مستخدمي «فايسبوك» في تناول شخصيات عامة بعد استدعاء عدد من الشباب للتحقيق إثر كتابات حول رئيس الجمهورية اللبنانية. وفي مصر، تستعر راهناً حملة الإعلام الحكومي لمنع «فايسبوك»، ويشعل المستخدمون حرباً مضادة على الموقع نفسه احتجاجاً على ضغط الحكومة عليهم، ويربطونها بالانتخابات الرئاسية الوشيكة، وبطريقة تعامل الحكومات العالمثالثية مع «فايسبوك» وما يتركه من آثار على النقاشات العامة. والأمثلة لا تنتهي. من الافتراضي الى الفعلي بعد أعوام قليلة على انتشار مطرد ومتسارع لمواقع الشبكات الاجتماعية، تتبلور ظواهر إضافية لاستخداماتها، لا سيما موقع «فايسبوك» الذي حقّق شعبية استثنائية. ثمة اليوم ما يتجاوز صراع الحريات في السياسة والثقافة. وتبرز ملامح واضحة لما يتحول إلى أكثر من مجتمع افتراضي، وإلى ما يذهب أبعد من نتاجات ثقافة الاتصال المستمر بدعم من شبكات الإنترنت وتقنيات الخليوي. وتتضح أكثر فأكثر، التأثيرات العميقة لمواقع مثل «فايسبوك» و«تويتر» و«الحياة الثانية» second life وغيرها، على اليوميات المُعاشة. صار عادياً ومألوفاً، وفي شكل راسخ، أن ينطلق حدث من عالم ال«أونلاين»، ليصل الى الحياة خارج الشبكات وتواصلاتها، الى المسارات الفعلية في الحياة اليومية. حركة «6 أبريل» المصرية بدأت نشاطاتها على الإنترنت، قبل أن تظهر في الشوارع و«ميدان التحرير». أما قصة كريم مع خطيبته فليست سوى مثال بسيط، يشبه ملايين الأمثلة التي تبرهن تطبيع وشيوع هذا النمط في العلاقات والاحتكاكات اليومية، وليس فقط في لحظات استثنائية وحالات نضالية من نوع «6 أبريل». يتعدّى المشهد الراهن الحضور «الحقيقي» للأشخاص حينما يتخذ شكلاً رديفاً، ويتطور على الإنترنت، مكتسباً أحياناً استدارات وتحولات، تظهره ك «حياة مستقلة». صارت ظاهرة الشبكات الاجتماعية الافتراضية في قلب الإدارة العادية للمشاعر والأفكار، بل ولتداولات المعنى والدلالات المستقاة من أنماط السلوك على فايسبوك وغيره. سلوك مستقل، بقوانينه وتجاذباته ودالاّته وإيحاءاته. تلك حياة تُعاش كاملة هناك، على فايسبوك، تؤثر في اليومي وتركيباته الاجتماعية والنفسية والثقافية، وأحياناً تصنعه. «الوسيط هو الرسالة» بالنسبة إلى كثيرين من مستخدميه، صار الفايسبوك مكاناً وزماناً يسعون باستمرار إلى إثبات وجودهم فيه. هو المتفلّت من المكان والزمان اللذين يعاد تعريفهما، كل مرة، بمشاركة الآخرين. وقد لا يكون «الأصدقاء» متصلين بالإنترنت لحظة إدراج تعليق ما، أو النقر على الإبهام المرفوع علامة إعجاب بصفحة أو رابط فيديو. لكنهم، حين يدخلون الموقع، سيجدون أثراً من صاحب «البوست»، والأرجح أن يتفاعلوا معه بطريقة ما، فيصبح موجوداً بالنسبة إليهم، في تلك اللحظة، وعلى شاشة بعينها. عمومية المعطيات المحمّلة على «جدار» أو صفحة فايسبوك، تشتمل على وعي صاحبها لماهيتها، ثم يمدّ أصحاب ردود الفعل حدود الوعي هذا. دائرة مفرغة، فائقة التشابك، وتستحق انتماءها إلى ظاهرة راسخة تعرف باسم «الواقع الفائق» Hyper Reality. حتى الخصوصية، في «بوست» موجّه إلى «أصدقاء» دون آخرين (وهذه تقنية متاحة)، هي الوعي نفسه وإن بِسِمَة انتقائية. والمعنى غير المعنى. صورة الخطيبة السابقة لكريم على فايسبوك، لم يضاهها الوجود الفعلي والعلني للفتاة نفسها في المعرض حيث يوجد كريم أيضاً. معنى فائق يضرب من جديد. الثلاثة (كريم وخطيبتاه)، إلى جانب حشد «أصدقاء فايسبوك» هم، في قاعة المعرض، غيرهم «أونلاين». حتى الخيالات تمسي غيرها. يتعاطى كل منهم مع واقعه الفائق بوعيه الخاص، صحيح. لكن الشرارة الأولى في قبضة فايسبوك وما يمثّل. الشرارة الأولى تقدحها البرمجة الرقمية لموقع فايسبوك، ومنطقها والمفهوم الذي بُنيت عليه فكرة الموقع من الأساس. وقد قالتها الخطيبة الحالية: ما يقال بينها وبين كريم شيء، وما يدور على فايسبوك شيء آخر تماماً. فهنا «شهود»، وهنا «مشهد» موازٍ. لهذا السبب بالذات على خطيبها لملمة المسألة، بالملموس، من أجل الافتراضي، وبالعكس. عليه التعامل مع الواقع الفائق، في الواقع «الأدنى»، بما يعود وينعكس ثأراً لتلك «الأنا» المتكئة جريحةً على جدار صفحة إلكترونية. «الوسيط هو الرسالة»، كتب مارشال ماكلوهان ذات يوم. الوسيط (الإعلامي)، بصرف النظر عن المضمون الذي يداوله، يحدّد ويقدّم مضموناً بذاته. وكما نقل اختراع المطبعة ثقافة الشفهي إلى ثقافة البصري، فتغير الإدراك العام لمختلف مفاصل الحياة البشرية، بل ونُظم اجتماعية بأمها وأبيها. وكما توالت ثقافات الراديو والسينما والتلفزيون والكومبيوتر، تتجلى الشبكة الدولية باعتبارها النموذج المعاصر من «الوسيط - الرسالة». ويعطي «فايسبوك» أحد أكثر مظاهرها تقدّماً. على موقع «إكزامينر.كوم» examiner.com مقال عن فايسبوك والعلاقات، تختتمها كاتبتها قائلة: «يمكنك استخدام الفلتر، فتوزع «أصدقاءك» في مجموعات (العمل، النادي، الجامعة، الخ..). تسمح لكل مجموعة بما تريد، وتحجب عنها ما تريد. هؤلاء يرون الإحداثيات الجديدة، وأولئك يطلعون على بعض الصور، وهكذا... لكن ماذا لو طبقت «الفلتر» على شريك أو شخص يعجبك؟ أي رسالة ستصله منك؟ أنت تعجبني لكني أخفي عنك أشياء كثيرة»؟ إذا دفعنا ماكلوهان إلى أقصاه، نصل الى القول إن الأمر لا يقتصر على معنى يضخّه الوسيط الإعلامي المعلوماتي بذاته. يزجّ الوسيط نفسه في الواقع. والاثنان يقحمان معانيهما في غمامة واقع فائق.