«خريف بيروت صيفٌ وشتاءٌ معاً مثل امرأة من رجس وطفولة ربيعها نساءٌ يتركن رعشةً في الإسمنت ، طراوةً في الحجر يؤخرن كهولة الأمكنة يخففن وطأة أبراج اعلى من أمنيات بنائيها، قسوة حروب أطول من أعمار مقاتليها يهبّ حين مرورهنّ ما يبدّد الخراب والضجر ما أجمل الصباح بين نهدين مبتسمين كتوأمين ما اجمل الصباح في مدينة كأنها أول العناق ونهاية الزعل» تحدوني رغبةٌ في البوح . يغريني خريف بيروت ، يعرّيني . تماماً كما يفعل ببعض الشجر تغدو تربة روحي أكثر خصوبةً واستعداداً لتلقّف بذور الشعر والمودّة ، والإلهام الكامن في تفاصيل الحياة وأثلامها العميقة . المدى الرماديُ المترامي الذي يغلّف فضاء المدينة يزيدني شجناً، لكنّه شجنٌ مثمر تتفتح على أغصانه براعم، وتنبت من براعمه ثمار، وتتدلّى من ثماره كواكب ومجرّات. عُري الطبيعة تهيؤ للاغتسال بفيض الغيم والغيب، يناديني الى عُري مماثل واغتسال من ذنوب وآثام وأخطاء وهنات. ليت الإنسان مثل الطبيعة، ليس فقط كما هي الحال في فصوله العمرية طفولةً وشباباً وكهولةً وشيخوخة. ليته مثلها كلّ سنة ، يتجدّد كما تتجدّد ويتعرّى كما تتعرّى وينكشف كما تنكشف، (هل المرأة أكثر رقّة وحناناً وأقل عنفاً من الرجل لأنها تتجدّد كل شهر؟ سؤال لمرة مقبلة) إذ ليس مثل الانكشاف رادعاً دون الوقوع في الأشراك التي تنصبها لنا الحياة، خصوصاً أن النفس - غالباً - أمارة بالسوء ...! للوجود غايات لا تُعد ولا تُحد. حاولت الديانات والفلسفة والشرائع الأخلاقية والحقوقية قوننة النزوع الإنساني والغرائز الأساسية، وظلّت الآداب والفنون - حتى في أقصى جموحها وتطرفها - أخفّ وطأة في تفسير الحياة وجعلها أكثر رحابة وليونة بل وتحوّلها أحياناً مطهراً ومصفاةً للنفس من شوائب وأدران وتعويضاً عن خيبات وانكسارات. كأن يغدو النزق والمروق على الورق نوعاً من تعويض المكبوت في النفس البشرية الهائمة بين ثنائيات وأضداد لا حصر لها ولا عدد. ما لنا وللفلسفة. كلّ ما في الأمر أن عُريَ الخريف يحرضني على التشبّه به، لا على طريقة بعض العراة احتجاجاً على أمر ما، بل تعرّ داخلي عميق، حيث السفر الى أعماق الذات يشبه زيارةً لأماكن مقدّسة، يعود منها الزائر مولوداً طاهراً نقيّاً جديداً متجدّداً كأنه أطل على الدنيا لتوّه. هذا ما يفعله الخريف تماماً، يحضّر الطبيعة لزفاف جديد، إنه أشبه بتلك الليلة التي تتعرّى فيها العروس وتغتسل استعداداً للآتي غداً. وما الشتاء الّا مُلاقحة السحاب للتراب، والسماء للأرض في طقس متى تغيّرت وقائعه اختلّ ميزان الوجود الأرضي أو الترابي وتأخّر ربيع الولادة... أخذني الخريف بعيداً في رماده الخصب. كلّ ما في الأمر أنه يعرّيني من داخلي، يكشفني لي، واضعاً نفسي قبالة مرآتها، للاعتذار منها أولاً ومن أي تقصير مارسته في حقّها، ولتعميم الاعتذار من كلّ نفس ذائقة الحب والتسامح والغفران إذ لولا المقدرة على التسامح لما ظلّ حجرٌ على حجر في بنيان التعارف الذي خلق الله لأجله شعوباً وقبائل. لو تعلمنّا من الخريف كيف نتعرّى من ذنوبنا وآثامنا وأخطائنا لما وقعنا فيها ثانيةً، ولما كررناها رغم أن الخريف يفعل عائداً كلّ خريف... لا أخشى الخريف مهما اعتراني الاصفرار لا خصوبة بلا عري، لا حرية. * ما بين مزدوجين من قصيدة « ضع وردتك هنا»، ديوان الشاعر «يعرفك مايكل أنجلو».