أظهرت الأرقام التي نشرت في صيف 2010 أن عدد أعمال القتل في فرنسا في 2009 بلغ 682، أي 1،1 عمل قتل واحد ل100 ألف شخص. وهذه النسبة أقل 5 أضعاف قياساً الى الحال في الولاياتالمتحدة. ففي هذه وقعت 16 ألف جريمة قتل في 2008، أي 5،2 ل 100 ألف شخص. ويدعو هذا الى النظر في العلاقة بين القتل وبين العقوبة التي تقتص من القاتل، وعلى الأخص عقوبة الإعدام نفسها. وغالباً ما يحتج أنصار عقوبة الإعدام بالقول أنها تؤدي الى تقييد العنف وردع القتلة المحتملين. وينبغي لأنصار عقوبة الإعدام جزاء القتل أن يتذكروا اقدام عدد من الولايات الأميركية انفاذ أحكام بالموت في 50 أو 60 مجرماً قاتلاً في السنة. والعقوبة القصوى هذه لا توقع، فعلاً، الا في عدد قليل من آلاف المجرمين القتلة الذين يحاكمون. فليست العقوبة، والحال هذه، نظير الجريمة أو جزاءها الدقيق، على خلاف زعم رائج. وإنما هي إجراء من صنف آخر. ويدعو تقويم الإصابات والخسائر، على مثال «العين بالعين والسن بالسن»، الى البحث عن تعويض عن الإهانة والانتقاص من الخصم يرضاها الخصم ويقبل بها، ولو أدى الانتقاص أو العدوان الى القتل. ويسعى التقويم في انهاء الثارات، وكسر دورتها، والحؤول دون عودتها. ولاحظت إحدى المؤرخات أن أعمال القتل في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بفرنسا، كان بعضها يؤدي الى اتفاقات خاصة، بمعزل عن المحاكم، بين أقارب الضحية وبين المذنب، وكان ثلثا جرائم القتل يعفو الملك عنها بعد «كفارة» تعذيب، وقلما ينتهي القصاص الى انفاذ الإعدام. وتجريم القتل تجريماً جنائياً نجم عن حماية حرمة الحياة البشرية، أولاً، ولكنه نجم كذلك عن فرض دور الدولة أو الأمير باسم المنفعة العامة. وقام هذا الدور على التوجه الى الأمير ومناشدته العفو على قدر ما قام على إعمال ساعد الجلاد. ولا شك في أن العقوبة بالإعدام استثنائية. وندرتها ليست مصدر دلالتها ومعناها. ولعل مصدر دلالتها هو إمكان الحكم بها استثنائياً في ختام اجراءات يتولى القاضي في أثنائها سلطات استثنائية وطارئة. وفي روما، على سبيل المثل، ازدهرت عقوبة القتل في عهد الأوتوقراطية الأمبراطورية بين القرن الأول (م) والقرن الرابع، ولم تستثن العقوبة طبقة من المواطنين، ولا حتى الأشراف. وفي معظم الدول الغربية، الى منتصف القرن السابع عشر، تكاثرت عمليات الإعدام – وهي بقيت استثنائية - في وقت اتسعت فيه الإجراءات القضائية الطارئة وغير العادية. فكيف يُفهم انحسار الإعدامات في فرنسا، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم زيادتها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وانحسارها من جديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتلاشيها تدريجاً في القرن العشرين، خصوصاً في فرنسا، في ضوء الأسباب والأعذار التخفيفية وحظر تنفيذها العلني في 1939، وفي نهاية المطاف إلغاؤها في 1981؟ الأرجح أن الزيادة والنقصان لا يتعلقان بتواتر العنف ولا بقمعه. وهما لا يعودان الى قدرة الدولة على «احتكار العنف المشروع» ومكافحة الجريمة. فهما قرينتان على رابطة سياسية خاصة ترتكز دستورياً، إذا صح القول، الى العقوبة الاستثنائية هذه أو الى الرابطة الاستثنائية الناشئة عن «الحق في الحياة والموت». فالولاية (أو السيادة) هي الصفة التي يتمتع بها من يحق له انزال الموت من غير ارتكاب جريمة القتل، ومن غير احتفال بتضحية، على قول الإيطالي جورجيو أغامبين. وتاريخ العقوبة القصوى يُسلط الضوء على الرابطة الوثيقة بين الحق الاستثنائي (في الحياة والموت) وبين انشاء الولاية أو السلطة العليا. وسبق ليان توما، وهو أحد الدارسين البارزين للمؤسسات والحقوق الرومانية، أن برهن على أن سلطة الأب العائلي أو شيخ الأسرة في «مدينة الآباء» (روما) الجمهورية، لم تكن ثمرة مكانة «خاصة»، بل كانت صفة سلطان أبوي ونظير سلطان الوالي، وتتمتع، على هذا، بصلاحية انزال الموت، وتشارك سلطان الوالي في تعريف السيادة والولاية. ويتخطى جواز الحكم بالموت في التاريخ الغربي، معادلة «العين بالعين» أو قضاء دين «خاص» (فردي أو عائلي أو عشائري) يقتصر على مرتكب الجرم وضحيته. فالحكم بالموت يقتص من إخلال بنظام عمومي يُحرَّم انتهاكه، وتتولى الولاية حراسته والسهر عليه. ويُندد بالمنتهكين، ويلعنون، ويوصمون بوصمة الخروج على المواطنين العاديين والأسوياء. وينبغي الانتباه الى أن عقوبة الإعدام لم تقتصر على قتل النفس. فهي تجازي الخيانات، والتجديف على «الذات» (في البدع)، وانتهاك الطبيعة (الجرائم الجنسية)، وتهديد أمن الطرق العامة، والقتل العمد، والعدوان على من يتولون وظائف ومهمات عامة. وتدعو فداحة الجرم، وانتهاكه ركناً من الأركان، إلى فداحة القصاص والعقوبة الاستثنائية. والعفو الجائز، على الدوام، هو كذلك مرآة قوة السلطان القادر على إنزال الموت على نحو ما هو قادر على حفظ الحياة. والوجهان متصلان ومتضافران. وإلغاء عقوبة الإعدام، في 1981 (بفرنسا)، ليس إجراءً جنائياً عادياً، بل هو تعبير عن نهج بناء السيادة أو الولاية. والإلغاء هو في مثابة اعلان عن تخلي المشرِّع الفرنسي عن الولاية المطلقة. وفي شباط (فبراير) 2007، نبّه المجلس الدستوري الفرنسي الهيئة الوطنية التشريعية الى أن المصادقة على البروتوكول الثاني للتعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الأممالمتحدة في 15 كانون الأول (ديسمبر) 1989، وينص البروتوكول هذا على إلغاء عقوبة الإعدام الغاء تاماً ويستثني من الإلغاء حال الحرب - نبّه الى أن المصادقة تقتضي تعديل الدستور، والنص في ديباجته على إلغاء عقوبة الإعدام. وعلى هذا، تنص المادة 16 من الدستور الفرنسي، الفقرة الأولى، على بطلان الحكم بالإعدام في أي كان بطلاناً تاماً. واضطرت الهيئة التشريعية الى تعديل 2007 سبل وطرق الى الغاء عقوبة الإعدام السياسية والسيادية. والسيادة الجديدة في أعقاب الإلغاء، إذا هي تخلت عن «سلطان الحياة والموت»، انصرفت تدريجاً وأكثر فأكثر الى «سلطان الحياة»، والحق في الولادة». وتخليها عن تهديد الحياة والتصرف فيها، دعاها الى تبني أشكال من الحكم تحيل الحياة الى شيء قليل، أو الى «حياة عارية»، على قول جورجيو أغامبين. فبعد إلغاء العقوبة بالإعدام زاد عدد المسجونين زيادة ملموسة، وأصبحت مدد عقوبات الحبس أطول. ولحظت الأحكام الجزائية الجديدة مُدداً غير قابلة للتخفيض أو التقليص. وتجعل المدد الطويلة دمج المحكومين في الحياة الاجتماعية بعد قضاء العقوبة، عسيراً ومستحيلاً. وتصم الموصومين الجدد بالعار. ويؤدي الإطار المتخلف عن الغاء عقوبة الإعدام الى اضعاف الوضع القانوني للأجانب والمهاجرين والمتسللين وذوي الهويات المضطربة والمتعثرة. فالسلطة التي تخففت شيئاً فشيئاً من عقوبة الموت، وخيراً فعلت، تنزع نزوعاً جامحاً الى اقصاء المتمادين والمتمردين على «الإصلاح» والمرضى العقليين من مجتمع المواطنين. وهذا الإقصاء بدوره، هو وجه من وجوه الاستثناء الذي كان يتمتع به صاحب «الحق في الحياة والموت». * مؤرخ ومدير بحوث، عن «ليستوار» الفرنسية، 10/2010، اعداد منال نحاس.