غزير هو الشاعر والإعلامي زاهي وهبي، لكن الغزارة لا تعني لديه الوقوع في التكرار أو الاستعادة، بل هو يسعى دوماً الى البحث عن أفق آخر، منطلقاً من بعض الثوابت المترسخة في ذاكرته ووجدانه. ينصرف وهبي الى الكتابة وقراءة الشعر في أمسيات يحييها بين سورية والأردن ولبنان وتونس والجزائر وقريباً في باريس حيث سيحيي أمسية في معهد العالم العربي. هذا عدا عن بحثه الدؤوب عن فنانين وكتّاب وشعراء ونقاد جدد، يستضيفهم أسبوعياً في برنامج «خليك بالبيت»، معرّفاً الجمهور العربي بهم وبأعمالهم ومناقشاً إياهم بجرأة وموضوعية. وعلى الأرجح أن المقهى البيروتي هو «الرحم» الذي يشهد ولادة القصائد والكلمات والحروف المتراقصة في دواوينه، ويشهد على ذلك كتابه «قهوة سادة» (الدار العربية للعلوم، ناشرون). فالمقهى في نظر وهبي «بصيغته البيروتية ليس فقط مطرحاً لإهدار الوقت وملء الفراغ، بل إنه حيّز شديد الصلة بكل ما تعيشه المدينة اجتماعاً واقتصاداً وفكراً وسياسة... فمقاهي بيروت مثّلت على الدوام نموذجاً حيّاً لدور المعارِض لا للسلطة السياسية فحسب، بل لكل سلطة سائدة... المقهى يظلّ عصياً على التعطيل والإقفال». ومن يعرف وهبي عن كثب، يعرف أن ما كتبه في «قهوة سادة» نابع من قلبه ومن حبّه الكبير الذي نشأ منذ أكثر من ربع قرن، لمقاهي شارع الحمرا. المقهى ليس فقط «غريمة» كما كتبت زوجة وهبي الإعلامية رابعة الزيات في مقدمة الكتاب، بل بيته ومكتبه ومدرسته وصالونه الثقافي والاجتماعي. لا شك في أن زاهي وهبي واحد من الشعراء والكتّاب والفنانين الذين وجدوا في المقهى ملاذاً يلجأون إليه، لا سيما خلال سنوات الحروب والمآسي والعزلات الكبيرة. كانوا يجدون في مقاهي الحمراء فرصاً سانحة للقاء والحوار والنقاش حول فنجان قهوة، قبل أن يفترقوا ليعودوا ويلتقوا في النهار التالي. كان المقهى هو المكان الوحيد الذي كان في إمكان المثقفين أن يلتقوا فيه، ويعيشوا تلك اللحظات الحميمة النادرة، في مدينة شبه مغلقة بل شبه منغلقة على نفسها. لكن المقاهي كانت أيضاً، خصوصاً في عصرها الذهبي اشبه بالزوايا التي يختلي المثقفون فيها بأنفسهم، يكتبون أو يقرأون الكتب والصحف، في حال من العزلة الجميلة. ينتمي زاهي وهبي الى جيل من الشعراء، نشأ في ظلال الحرب، وهذا الجيل الذي كان للحرب عليه أثر عميق، كان أفراده يلتقون غالباً في مقاهي الحمراء. ويمكن القول إن هذا الجيل هو سليل شارع الحمراء بمقاهيه وأرصفته والتحوّلات التي شهدها. في «قهوة سادة» لا يكتب ابن الجنوب الذي وجد في بيروت مدينة أحلامه وطموحاته، عن المقهى البيروتي فقط، إنما يرسم لوحة بانورامية لحال المدينة قبل الحرب وبعدها وما بين بين. فالكتابة عن المقهى «كتابة عن الحياة»، يقول. ويعترف: «الحياة حين تكون دائماً على أهبة الموت وملازمة له، تغدو شهية أكثر... وحين تكون الحياة مهدّدة بالمنع والإلغاء تغدو فرصة التقاط لحظاتها الهاربة وعيش ثوانيها أكثر إلحاحاً». ويستنتج القارئ من هذه السطور التي تحوي بينها جملاً شعرية وشاعرية وقصصاً مع مثقفي المدينة، أن الكاتب لا ينعى بيروت المتخبّطة بمشكلاتها السياسية وثقل طوائفها، بل يكشف عن حنين الى زمن الحرب على رغم قساوته وفوضويته وعشوائيته، وعن إعجاب بمدينته الحبيبة التي تبدّل جلدها ونبضها، وعن أمل قد «يطلع من ملل» كما تقول فيروز في أغنيتها «إيه في أمل». في فصل بعنوان «رزق الله» يخبر وهبي حكايته الشخصية في شارع الحمراء الذي لم يغب عنه يوماً منذ عشر سنوات، معلناً أنه مدمن لهذا الشارع وعاشق لصباحاته ومساءاته... يخبرنا كيف تمّ اللقاء يوم كان الشارع مجروحاً مكسور الخاطر، داكناً في العشيات، شاحباً عند الفجر، تستبيحه الفوضى والعشوائية، ويضجّ بتفاصيل الحياة البسيطة، حيث يصبح نباح الكلب «يؤنس وحشتي ويبدد فزعي». يحكي وهبي عن الشارع بناسه وباعته ومتسكعيه كشاهد حيّ على تبدلاته وتحوّلاته وما طرأ على الناس والأمكنة. كأنه يتحدث عن حبيبة هجرته وما زال قلبه يخفق لها، وعندما رآها بعد طول غياب وجد هوة أو نقصاً ما... لا يفهمه! الحمراء أو حبيبة زاهي وهبي ينقصها كما يقول «شيء من الشغف والتوهّج والتمرّد، من التضاد والتناقض... قضية تملأ جنباته ضجيجاً...» «ثمة أمكنة يصنعها الأمل، ثمة أمكنة يصنعها الحنين، وثمة أمكنة يصنعها مزيج الاثنين... وهذا حال الأمكنة المستعادة من ذاكرة ذهبية. مزيج من اختلاط المشاعر يمنح المكان خصوصية وفرادة تكادان تجعلان منه حالة لا مجرد مقهى أو مسرح أو صالة أو حيّز جديد يضاف الى أمكنة عائدة أو مستعادة من ذاكرة بيروت ومن زمنها الغابر وأيامها التي كانت حلقة اتصال الليل بالنهار». يعرض وهبي في هذا الكتاب أحوال مقاه عرفها شارع الحمراء ومنطقة رأس بيروت، يتوقف عند تبدلات طرأت وإقفال تمّ. يتحدث عن نشأة ال «سيتي كافيه» و «ليناز»، وإقفال «الويمبي» و «المودكا» و «كافيه دو باري»، وعن مدمني الحياة فيها، من شعراء وكتاب مثل عصام العبدالله ورشيد الضعيف وشوقي بزيع وجودت فخرالدين وبول شاوول، يحكي عن غصّة رافقت كل هذه التبدلات. وعلى رغم الحنين الى الماضي وأيام الشارع المأسوية، تجد بين كلمات وهبي نفحة أمل بهذا الشارع ومقاهيه التي تمثّل شيئاً من جلد الإنسان الذي يمرض ولا يموت، بل يُجدّد خلاياه بنفسه مقاوماً كل اعتداء أو فيروس أو بكتيريا.