حين يشكو الطالب من التهاب في اللوزتين، أو مغص في المعدة أو صداع بسبب نزلة برد، يتكفّل التأمين الصحي المدرسي بعلاجه. أما إذا تعرض لمشكلة نفسية أو اضطراب عصبي مبهم، ولم يترك آثاراً جسدية يمكن رؤيتها بالعين المجردة، فهذا لا يحتاج لأية رعاية صحية! مشكلة مزمنة تعانيها مجتمعات مختلفة، وفي مقدّمها المجتمعات العربية، حيث ما زال الاهتمام بالمرض النفسي ضعيفاً وهشاً. وقلما يجد طريقه إلى مطلع قائمة الرعاية الصحية واعتراف المجتمع به، وحتى في هذه الحال، يبقى شبح الوصمة والعيب يخيم على المريض وأسرته. دراسة صادمة كُشفت منذ نحو أسبوعين في القاهرة، على هامش اجتماع «اللجنة الإقليمية لشرق المتوسط»، لمنظمة الصحة العالمية، حذرت من مغبة تجاهل الاضطرابات النفسية للأمهات والأطفال والمراهقين في دول شرق المتوسط، وغالبيتها عربية. فبين 15 و36 في المئة من الأمهات في المنطقة و10 و36 في المئة من الأطفال والمراهقين يعانون اضطرابات نفسية، وهي نسبة أعلى بكثير من تلك السائدة في بلدان العالم المتقدم. وتترافق هذه الاضطرابات غالباً ونتائج سلبية على الصحة الإنجابية وصحة الأطفال والمراهقين في العالم العربي، لا سيما في جيبوتي والأردن والسودان واليمن ومصر، بالإضافة إلى أفغانستان وباكستان وإيران. وتحتفظ نساء المنطقة لأنفسهن بحصة الأسد من الإصابات باضطرابات وأمراض نفسية، إذ أثبتت الدراسة أن نسبة الإصابة بينهن أعلى بكثير مما هي بين الرجال. فالاكتئاب الذي يصيب الأمهات الحوامل في الأسابيع الأخيرة، يؤدي أحياناً إلى ولادة أطفال ذوي أوزان منخفضة، أو مصابين بسوء التغذية، أو سواد حول العينين، والإسهال بنسبة مرتفعة في عامهم الأول. النساء في المنطقة العربية معرضات للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة بنسبة 56 في المئة، مقارنة بقريناتهن في العالم المتقدم، حيث لا تزيد النسبة عن 30 في المئة. ومثل هذا النوع من الاكتئاب يؤثر سلباً على صحة أطفالهن. وتعاني المنطقة شح الدراسات والإحصاءات على المستوى الوطني عموماً، وفي مجال صحة الأمهات والأطفال والمراهقين خصوصاً. إلا أن دراسة شملت عدداً من دول المنطقة، من بينها السودان، أكدت أن نسب الإصابة بالاضطرابات العقلية بين الأطفال والمراهقين في الفئة العمرية، 5 إلى 15 سنة تبلغ 12 في المئة. وفي الإمارات العربية المتحدة، بلغت نسبة الإصابة بالاضطرابات العقلية بين أطفال المدارس نحو عشرة في المئة، في حين أشارت دراسة إماراتية إلى أن نسبة الاختلالات السلوكية والاضطرابات العاطفية في الفئة العمرية بين 6 و18 سنة تبلغ 16 في المئة. وفي السعودية، بلغت نسبة الاضطرابات العاطفية نحو خمسة ونصف في المئة، في حين تتراوح النسبة في مصر بين أربعة ونصف وعشرة في المئة. وفي عُمان، يعاني 17 في المئة من طلاب المرحلة الثانوية من أعراض الاكتئاب. وما يثير القلق كذلك أن متوسط العمر لبدء تعاطي المواد المخدرة والكحوليات آخذ في الانخفاض في الكثير من دول المنطقة. وبصفة عامة، فإن 15.5 في المئة من طلاب دول المنطقة التي شملتها الدراسة فكروا في الانتحار، و5.2 في المئة تعاطوا مواد مخدرة خلال ال12 شهراً الماضية، و11.8 في المئة تناولوا مواد كحولية خلال الشهر الذي سبق الانتهاء من كتابة الدراسة في آب (أغسطس) 2010. وفي مصر، تشير الأرقام إلى أن 8.8 في المئة من طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية يتعاطون مواد مخدرة، وأن متوسط سن التعاطي الأول هو 14.25 عام. ولما كانت المنطقة العربية تحفل بمناطق نزاع وطوارئ، جاء كل من العراق وفلسطين على رأس قائمة الدول العربية التي يعاني أطفالها ومراهقوها ونساؤها من الاضطرابات والأمراض النفسية. ويكفي أن 37.4 في المئة من أطفال ومراهقي العراق يعانون اضطرابات عقلية، أبرزها أنواع مختلفة من الفوبيا (الرُهاب)، ورفض المدرسة، ومشكلات الفراق والانفصال عن الأهل، ومشكلات التعليم والسلوك. وفي فلسطين بلغت نسب الإصابة بالاضطرابات العاطفية والسلوكية 54.4 في المئة بين الفتيان، و46.5 في المئة بين الفتيات. أما نسبة المصابين باضطراب ما بعد الصدمة النفسية، بين أطفال المدراس والمراهقين، فتتراوح بين 17 و40 في المئة. وتحذر الدراسة من أن الوصمة والتمييز ضد المصابين بالأمراض والاضطربات النفسية ما زالتا مشكلة كبيرة في معظم دول المنطقة. وهو ما يستدعي تضامناً وتعاوناً لتغيير نمط المعرفة السائد والتصرفات والأفكار التي تميز ضد المرضى النفسيين، بل وتسلبهم الحق بالعلاج. وليس أدل على ذلك من وقوع العلاج النفسي في معظم الأحوال خارج إطار منظومة العلاج التقليدي. ويطالب بدمج العلاج النفسي ضمن حزمة العلاجات الأساسية المتاحة في دول المنطقة، وهي الخطوة التي تعاني الكثير من التباطؤ في دول المنطقة. مطلوب المزيد من الالتزام السياسي تجاه الاهتمام بقضايا الصحة النفسية للأمهات والأطفال والمراهقين، والعمل على محو الوصمة والتمييز ضد كل ما يتعلق بالأمراض النفسية، لا سيما أمراض الأمهات والأطفال والمراهقين، بالإضافة إلى تحديد عبء المرض النفسي وكلفة مواجهته، مع تخصيص الموارد البشرية المطلوبة. ويجب أن يتم ذلك تحت مظلة دمج الصحة النفسية ضمن حزمة الأمراض التقليدية المتعارف عليها والمعترف بها في أنظمة التأمين الصحي وفي عقول أفراد المجتمع وعقلياته.