مدينة البترون الساحلية اللبنانية إحدى المدن التاريخية السياحية المهمة بآثارها المتنوعة ومناظرها الطبيعية وموقعها الجغرافي، فضلاً عن مواطنيها وناسها العريقين في الحضارة والذين يضعون نصب أعينهم رفع شأن منطقتهم في كل المجالات التنموية والسياحية. يتقاطر اللبنانيون والسواح العرب والأجانب كلّ صيف الى البترون للمشاركة في صيفياتها الرائعة التي يميّزها كرم البترونيين وتعاونهم لتنظيم مهرجانات جذابة خصوصاً أن المدينة تتمتع بآثار طبيعية وتاريخية مهمة. وهنا لا بد من التنويه بجهود الفنان البتروني المصوّر فارس جمّال الذي يعمل مع أبناء المدينة للمحافظة على تراثها ورونقها القديم. تدغدغ أنفك رائحة زهر الليمون المنعشة عندما تصل الى البترون، فالمدينة الساحلية الشمالية القديمة مشهورة بزراعة شجر الليمون (الحامض) الذي يداعب أريجهه نسيم موج البحر الهادر. والرحلة الى البترون، التي تبعد عن بيروت مسافة 50 كلم وترتفع عن سطح البحر 200 متر، سلسة وممتعة خصوصاً وهي ستمرّ بمدن ساحلية سياحية رائعة مثل جونيه وجبيل قبل أن تصل الى محافظة لبنان الشمالي التي تشكّل البترون إحدى أكبر مدنها وأرقاها، وهي التي تجمع بين الثقافة اللبنانية وصفاء ماء البحر ومكان مؤات للراحة والهدوء وأيضاً محطة فاخرة لأرقى الحفلات. نصل الى الشارع الرئيسي في المدينة، فيلفتنا توّزع الإشارات المفضية الى المرافق السياحية. وما هي إلا أمتار حتى نجد أنفسنا في أحياء تراثية قديمة تجعلنا نترجل تلقائياً من السيارة لمعاينة جمالية الشوارع والأبنية القديمة. وهنا تتبدى لنا رحابة صدر الأهالي الذين يرحبون بالزائرين على طريقتهم البترونية المميّزة، فالليموناضة المنعشة في حرارة الشمس الحارقة قدّمت لنا مع الثلج، ولقمة «كبة السمك» المشهورة هناك جعلتنا نستسيغ «أكلة» شعبية جديدة تجمع بين «فيليه» السمك البتروني وثمار البحر الطازجة الممزوجة بالبرغل والصنوبر والبصل والتوابل السبع وعصير الحامض والليمون. وللإطلاع على أهمية الطعام البتروني لا بد من زيارة «بيت المونة البتروني» الذي ننصح بزيارته لكل من يقصد المنطقة. لا تستغرب عندما يُعرض عليك ركوب دراجة هوائية رياضية لمعاينة معالم المدينة الأثرية، ففي البترون شوارع وطرقات قديمة تشكل السوق الحالية المبنية من الحجر الرملي، وما زال بعض الحرف القديمة مثل الخياطة والسكافة والحدادة موجودة وتمارس فعلياً في السوق. وتقوم في أحياء البترون القديمة قلعة فينيقية ترجع الى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وقد تهدّمت بزلزال العام 551 ميلادي وقام الأهالي بإعادة تأهيلها. وتبين الدراسات أن الرومان حفروا في حي «مراح الشيخ» مدرجاً تظهر منه اليوم إحدى عشرة درجة فقط. ويوجد في المدينة أضرحة ونواويس ترجع الى العهد الروماني، وتضم أيضاً كاتدرائية مار إسطفان للموارنة وهي أكبر كنائس لبنان وتتميّز بطراز معماري يخلط بين البيزنطي والروماني، وقد شيّدت على أنقاض كنيسة صليبية قديمة. أما كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس فقد بنيت حسب الطراز البيزنطي وهي متوجة بقبة فريدة بالفعل. كما يلفت وجود أربع أيقونات مرسومة بماء الذهب موجودة في كنيسة سيدة البحر المشيّدة على أنقاض هيكل فينيقي. ينعم شاطئ البترون بمعالم أثرية رائعة، وللتمتع بها لا بدّ لنا من الصعود على متن مركب صغير يقوده بحاّر عتيق يجول بنا ساحل المدينة. فالمرفأ الطبيعي القديم بمنارته الأثرية لا تزال بقاياه تستعمل كمرسى لمراكب وسفن صغيرة تعمل في صيد السمك والإسفنج. وليس بعيداً من المرفأ أنشأ البترونيون مسرحاً رومانياً رائعاً من حجارة قديمة تقام عليه حفلات ومهرجانات الصيف المهمة. وفور إبحار المركب أمام المدينة، نعاين وبأم العين السور الفينيقي الصخري الرائع الذي كان يحميها في العصور الغابرة من الغزوات والقرصنة. ومع أن أجزاء مهمة منه تهدّمت بفعل العوامل الجوية، إلا أنه يبقى من أهم المعالم الأثرية الساحلية في لبنان. وتبرز من البحر واجهة البترون البحرية المميزة بجمالية المنازل القرميدية القديمة وممراتها الضيقة المفروشة بالزهور، قبل أن نصل الى الشاطئ الصخري الجنوبي مع بقايا منازل قرميدية قديمة يبرز من خلالها الشاطئ المتاح لكلّ الناس بحيث يقبع هاهنا «مقعد المير» الصخري الذي يعود الى القرن الثامن عشر، ويعمل القيّمون على المدينة على ترميمه وتأهيله.