يقدم الفيلم الوثائقي القصير (15 دقيقة) المصور عام 1946 للمخرج الفرنسي أندريه أوزبادا بعنوان «طنجة مدينة دولية» صورة تشريحية عن واقع هذه المدينة المتوسطية التي افتتح فيها يوم الاثنين الماضي فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم القصير، وحيث تختتم فعالياته غداً بانتظار توزيع الجوائز الثلاث على مستحقيها، وهي جائزة مدينة طنجة، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجائزة السيناريو. الفيلم الفرنسي شكّل مفاجأة طيبة للحضور بالنظر إلى قيمته التاريخية والفنية، فهو أنتج في أربعينات القرن الماضي من قبل اتحاد السينمائيين الدولي وقدّم ببساطة وعمق مدهشين وبإلمام كاف من مخرجه صورة واضحة عن توجهات هذه المدينة مبكراً، والكشف عن جوهرها المتنوع فهي تحولت عبر التعددية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى مدينة ل «البحر الداخلي» هذه المرة كما يحب القائمون على المهرجان أن يطلقوا على هذه الدورة في توصيفها، فجاء اختيار الأفلام متناغماً إلى حد بعيد مع هذه الثيمة، وبدا واضحاً من خلال أفلام كثيرة أن هذا التنوع لم يلغ القضايا الكبرى كهواجس متفرقة وجاء بعضها على المتن ليعرف بهموم صغيرة وهامشية وتحتاج إلى عين مدربة للغوص فيها، فغابت الحروب والنزاعات والهجرة غير المشروعة والعنصرية، وإن ظهرت في بعضها فبتحفظ كبير وفي الخلفيات البعيدة، وحل مكانها ذلك الغوص في الشؤون المهملة لإنسان هذه البقعة الجغرافية والمائية المتشاطئة منذ الأزل وتبحث عن هوية يمكن لفيلم قصير أن يختزلها ويعبر عنها أو قد يخفق فعلاً بالإمساك بها والتعبير عنها لتعقد في المسألة ذاتها. بعض الأفلام التي اكتفت بالتعريج على حروب ساخنة عاشتها هذه البقعة أو تلك دفعت بهذه الأوضاع لتشكل خلفية مزركشة للأحداث، أو هي استمدت ذريعة لتخطيها. حتى الأفلام التي جاءت من دول عاشت حتى وقت قريب حروباً متفجرة لم تتخذ من هذه الأوضاع ثيمة أساسية، كما كنا نشاهد حتى سنين خلت، فقد أنصت كثر على ما يبدو هذه المرة لأمواج «البحر الداخلي» وليس مصادفة أن تكون لجان الاختيار قد نحت هذا المنحى لتقدم صورة مختلفة عن عوالم مضطربة، لم يكن ممكناً أن تجيء إلا من هذه البقاع بالتحديد، ومن هذا فيلم «طنجة مدينة دولية». بعض هذه الأفلام التي ذهبت بعيداً في ذلك النوع الشعري المفقود جاءت تعويضاً عن فقدان هذا الشعور، وهو ما أقدم عليه مخرجوها بتواضع ومحبة كبيرين. البعض الذين تحدثوا في أعقاب عروض أفلامهم، لفتوا الى مصاعب جمة كبيرة لإنجاز هذه الأفلام، كأن تنتظر المخرجة الجزائرية أمل كاتب عشر سنوات لتحقق فيلمها القصير الأول «لن نموت» عن محارب عائد من أفغانستان ومعه زجاجة نبيذ. أولى هذه المفارقات تودي بالبطل ليقضي جل وقته يبحث عن مفتاح لهذه الزجاجة من دون جدوى. كذلك الأمر بالنسبة لمواطنتها ياسمين شويخ التي تقدم في فيلمها «الجن» صورة مختلفة لبطلتها وهي تضع عنبر بعد بلوغها أمام ثلاثة خيارات للهرب من الجن الذي يسيطر على القرية التي تعيش فيها. كذلك الأمر بالنسبة الى الفيلم المصري «باب للخروج»، وإن جاء من تيمة شائعة نوعاً ما، حيث يضيّع بطلاه مفتاح الخروج من الشقة المهجورة التي لجأا إليها في غفلة عن العيون اليقظة بحثاً عن الحب، ويظلان حبيسين فيها بغية الانحناء على واقع حياتي مهمش لا يمكن معاينته إلا من خلال الحبس الاضطراري الذي يلجأن إليه في الأعماق غير الواعية ربما بما سيؤولان إليه من الآن فصاعداً. فيلم «صولو» للمخرجة المصرية الشابة ليلى سامي يغادر إلى عزلة الفرد من زاوية مراقبة ثابتة وبسيطة، فالبطلة التي تبحث في الصباح عن قطعة شوكولا ولا تجدها تواجه خوفاً من الخروج إلى الشارع، وكأنها تحبس نفسها عن طيب خاطر لتجرب متعة «الحبس الداخلي» في تعبير ناجع عن عوالم شخصية مأزومة. وحتى الأفلام القصيرة التي جاءت لتناقش قضايا روائية تقليدية وجدت نفسها في نهاية المطاف مطالبة بالإصغاء للواقع الداخلي على حساب التشرذم النفسي الذي تعيشه الشخصيات حتى في أفلام لم تتجاوز مدتها خمس دقائق، كما في الفيلم الصربي «خمس دقائق في شارعي» لميلوس بوزيتش الذي يقدم رحلة شابين صربيين في متاهة بلدهما الممزق على هدي الحروب، حيث يبدو أن كل شيء قابل للتفاوض في مرحلة تحولات اقتصادية صعبة. كذلك تقدم الممثلة الفلسطينية عرين عمري فيلماً من إخراجها هذه المرة بعنوان «الدرس الأول» عندما تقوم سلمى بمحاولة بدء حياة جديدة هرباً من الضغوطات اليومية التي تعيشها في مدينتها وتقرر في محاولتها هذه اجتراح فكرة الوطن البديل.