مع اشتداد الضغوط على المسيحيين العرب واقتراب موعد سينودوس الشرق الأوسط في الفاتيكان في مطلع الشهر المقبل، تعددت المؤتمرات والمبادرات للنظر في هذه الضغوط وللبحث في طرق معالجتها وضمان سلامة واستقرار الطوائف المسيحية العربية. وكان من بين هذه المبادرات المؤتمر الذي عقده «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية» في بيروت يومي السبت والاثنين الفائتين تحت عنوان: «مؤتمر إحياء الدور المسيحي في المشرق العربي». وتضمنت الدعوات لحضور المؤتمر تحفيزاً للمشتركين على التفكير في المتطلبات الآيلة الى تحقيق هذه الغاية بدءاً من تحديد المقاربة الأصلح لهذه القضية التي تستأثر بالكثير من الاهتمام العربي والدولي، ووصولاً الى التقدم باقتراحات محددة يمكن تبنيها من قبل المعنيين بمصير المسيحية العربية. وكما يحدث في المؤتمرات والأنشطة التي تتعرض لهذا الموضوع ولمستقبل المسيحيين العرب، فان الخيارات والمشاريع التي اقترحها المشاركون انطلقت من مقاربتين رئيسيتين: الأولى، مقاربة الذين يخشون من الرياح الساخنة التي تهب على المسيحيين من المنطقتين العربية والشرق أوسطية من أبناء الطوائف الأخرى، فيفتشون عن حل عبر الانسحاب من الحياة العربية والابتعاد عن العرب. ويشبه موقف بعض الذين يأخذون بهذا الخيار موقف مارغريت ثاتشر، رئيسة الحكومة البريطانية السابقة، التي كانت تعارض بقوة تطوير علاقات الجزيرة البريطانية بالاتحاد الأوروبي والتي عللت موقفها بأنه، «لم يأت بلدها من القارة الأوروبية إلا الدمار والأفكار المتعسفة»! ويتضمن هذا الخيار عادة الاستنجاد بالغرب إذا كان ذلك مفيداً، واستنصاره إذ كان ذلك ممكناً. ولقد انعقد مؤتمر «مركز عصام فارس» في وقت بدا أن هذا المسار قد حقق غرضه في أكبر بلد عربي أي في السودان. فبعد أسابيع قليلة سيجري الاستفتاء حول علاقة جنوب السودان ذي الأكثرية المسيحية بشماله ذي الأكثرية الإسلامية. ومن الأرجح أن تأتي نتيجة الاستفتاء لمصلحة الانفصال، الذي لقي دعماً قوياً من دول الغرب. ولكن على رغم هذا المشهد السوداني، وما قد تستنتجه بعض الأقليات الدينية والاثنية في المنطقة العربية وغيرها في شأن العلاقة المثلثة مع الأكثرية من السكان ومع الغرب، فان الاتجاه العام الذي ساد الأوراق التي قدمت الى المؤتمر والمناقشات التي تخللته، كان بعيداً عن هذه المقاربة. الثانية، هي مقاربة الذين يأملون ويسعون الى إحياء المسيحية العربية في الإطار العربي نفسه وليس من خلال الابتعاد عن العرب. ولقد ترددت هذه الدعوة على ألسنة الكثيرين من المشتركين في المؤتمر وكانت محور الورقة التي قدمها الدكتور كمال الصليبي، كما جرى التطرق إليها في كلمة البطريرك الماروني نصر الله صفير والتي ألقاها نيابة عنه المطران سمير مظلوم، كما انها ظللت العديد من مساهمات ومداخلات المشاركين الآخرين. طالب الصليبي المسيحيين العرب أنفسهم بالحفاظ على المسيحية العربية، ليس من باب الحفاظ على النفس فحسب، وانما أيضاً من أجل الحفاظ على العرب عموماً. وإذ أناط المؤرخ اللبناني والعربي الكبير بالمسيحيين العرب هذه المهمة الكبرى، فقد دعاهم الى «إعادة الثقة بالنفس وبالهوية العربية». وذكر النصارى اللبنانيين بصورة خاصة أن «عالمهم العربي الذي تهب عليه الرياح من كل صوب، لم يتحرك جدياً حتى الآن إلا لنصرة لبنان» بما يمثل «من محجة لا محجة بعدها للعالم العربي». وفي السياق نفسه، تحدثت كلمة البطريرك صفير عن معضلة المسيحيين العرب باعتبارها مشكلة عربية. فالمسيحي العربي لا يطلب لنفسه أمراً لا يطلبه المسلم العربي لنفسه. والعرب كلهم تجمعهم هموم التطلع الى الحرية والسلم والاستقرار والازدهار. وفي المشرق العربي اقصائية لا تبعد المسيحي عن المشاركة في الحياة العامة فحسب، بل تبعد الأكثرية من المواطنين عن هذه المشاركة. وما يشعر به المسلم العربي من إجحاف وظلم بسبب سياسة المعايير المزدوجة التي اتبعتها الدول الكبرى في الغرب تجاه العرب، وبخاصة تجاه القضيتين الفلسطينية والعراقية، يشعر به المسيحي العربي أيضاً. فهذه السياسة أدت الى تغذية العداء للغرب وللمسيحية بل وحتى للديموقراطية في بعض الأوساط الدينية في المنطقة العربية. كل ذلك أدى الى تعميق الأزمة التي يعيشها المسيحيون العرب والى تفاقمها حيث كان من نتائجها ارتفاع نسبة الهجرة بينهم الى خارج المنطقة العربية. إزاء هذا الواقع دعا البطريرك صفير المسيحيين الى تفعيل حضورهم في المنطقة عبر «إعادة الاعتبار الى التجربة اللبنانية بأبعادها القائمة على الديموقراطية والعيش المشترك والمساواة بين سائر المجموعات الطائفية»، بل والى محاولة تعميم هذه التجربة قدر المستطاع على الدول العربية الأخرى. وتنطوي هذه الدعوة على موقف سليم وترتيب موفق لأولويات الاهتمامات المسيحية في المنطقة. ذلك أن ثمة علاقة حميمة بين النظرة الى النظام الديموقراطي في المنطقة العربية والنظرة الى لبنان. وثمة علاقة موازية في نظرة العرب من غير اللبنانيين الى العلاقة بين لبنان والمسيحيين. ولكن إذا كانت الديموقراطية هي المدخل الأسلم لتصحيح أوضاع المسيحية العربية، فهل لنا أن ننتظر ثماراً سريعة لمشاريع الدمقرطة في المنطقة العربية، سواء على صعيد إحياء الدور المسيحي أو غيره من القضايا المهمة؟ للأسف ليس هناك ما يدعو الى التفاؤل بإمكانية إحياء الدور المسيحي في المنطقة في المستقبل القريب. ذلك انه بالعودة الى التقارير السنوية التي تصدرها المراكز والمراصد والبارومترات المعنية بتطور الديموقراطية في العالم، نجد أن المنطقة العربية تتقدم بثبات لكي تحتل المرتبة الأولى بين مناطق العالم التي تعاني من العجز الديموقراطي. فحسب «وحدة قياسات الديموقراطية» التابعة لمجلة «الايكونوميست»، ليست هناك دولة عربية تصنف بأنها ديموقراطية حقيقية، وهناك ثلاث دول عربية فقط يمكن تصنيفها بأنها «نصف ديموقراطية»، أما باقي الدول العربية فانها تصنف، بحسب المؤشرات التي وضعتها وحدة القياسات، بأنها دول أوتوقراطية. مما يزيد معضلة المسيحيين العرب تفاقماً أن المنطقة لا تشكو من العجز الديموقراطي فحسب، وانما تعاني أيضاً من عدم الاستقرار وهذا يمثل حالة فارقة. فمن المعتاد أن تبرر الحكومات تغييب الديموقراطية بالحاجة الى فرض الأمن والهدوء والاستقرار، فتكون المقايضة هي «السلم المحلي مقابل التشدد الأمني والأوتوقراطية». ولكن المنطقة العربية تعاني من العجز في المجالين معاً. ويشعر المواطنون جميعاً بوطأة هذا العجز، ولكن الأقليات والجماعات البشرية المهمشة هي التي تشعر أكثر من غيرها من الأكثريات بفداحة هذا العجز. ففي العراق والسودان يعيش المسيحيون العرب في ظل تصاعد العنف والقتال. وحيث أن القيادات المسيحية هي التي تمسك ب «الجيش الشعبي لتحرير السودان»، فان انفصال الجنوب سوف يؤدي الى تمتع المسيحيين في الجنوب، كما يعتقد البعض، بالأمن والهدوء بعد عقود طويلة من الحروب والدماء. إلا أن هذا التوقعات تبدو في غير محلها في ضوء توقعات مضادة ترجح أن يتحول الجنوب الى مسرح اقتتالات ضارية بين قبائله وجماعاته العرقية والاثنية والدينية. ولا تبعد مصر عن مثل هذه التوقعات حيث تكثر الأحاديث في القاهرة وخارجها عن «مخطط تفتيت مصر» بعد إنجاز مخطط تقسيم السودان، وحيث تتهم قيادات إسلامية كنائس الأقباط، ب «تكديس الأسلحة». وفي لبنان يتعرض المجتمع لشتى أنواع الامتحانات والتحديات والتهديدات، ويتابع اللبنانيون بقلق شديد تصاعد الصراع السياسي بين الأطراف المسيطرة على الدولة. وتنتشر هذه الخشية بصورة خاصة بين المسيحيين. وعلى رغم أن التوقعات المتشائمة ترجح أن يكون طرفا الصراع هذه المرة من المسلمين، إلا أنه ليس من الصعب أن يمتد الحريق الى المناطق المسيحية، وأن يتحول المسيحيون الى كبش فداء إذا شعر طرف من الأطراف بضرورة تغيير قواعد الصراع. مقابل هذه الوقائع المؤلمة والاحتمالات والتوقعات المظلمة، فان المسيحيين العرب أمام طريق صعب، ولكنه قد يكون الطريق الأقصر والأفضل لتجاوز ما نحن فيه اليوم من انهيارات سياسية ومجتمعية لا تصيب الأقليات فحسب ولكنها تلم أيضاً بالأكثريات وباللبنانيين والعرب جميعاً من دون استثناء. * كاتب لبناني