كاد التأزم الأخير الذي شهده لبنان يبدد مفعول التقدم في التفاهمات السعودية – السورية حول الكثير من الملفات الإقليمية ومنها لبنان. وعلى الأقل أوحى هذا التأزم بأن هذه التفاهمات عرضة للاختلال والخرق أو الانتكاس. وأبرز ما كاد يبدده التأزم، هو إحدى الثمار المهمة لهذه التفاهمات، أي التحوّل الذي ظهر في موقف رئيس الحكومة وزعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري في الموقف الذي أعلنه في 6 ايلول (سبتمبر) الجاري عن العودة عن الاتهام السياسي لسورية بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإقراره بأن شهود الزور ضلّلوا التحقيق وسيّسوا الاغتيال وتمييزه بين الاتهامات السياسية ومسار المحكمة. وإذا كان التفاهم السعودي – السوري يشمل السعي الى الارتقاء بالمصالحة السورية – اللبنانية وتحديداً بين دمشق والحريري، الى مستوى أعلى من التعاون في معالجة الملفات الشائكة في البلد، فما من شك في أن الموقف الذي أعلنه الحريري شكل جسراً يفترض أن يسمح بهذه النقلة، لأنه في الدرجة الأولى يعين سورية على تجاوز الماضي من الخلافات ويسمح لها بالارتكاز على هذه المراجعة الحريرية للعلاقة معها من أجل البناء عليها كي تلعب دوراً مع حلفائها، باعتبار أن الموقف الجديد هو حجر الزاوية في مساعي معالجة تداعيات عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على الوضع اللبناني الداخلي. إلا أن ردود الفعل الإيجابية على موقف الحريري الجديد من حلفاء دمشق لم تدم 48 ساعة، وما لبث الأمر أن انقلب الى مواجهة سياسية مستعرة وضعت التفاهم السعودي – السوري أمام اختبار هو الأول من نوعه منذ انطلاقة التقارب بين الدولتين. وإذا كان التواصل بين دمشقوالرياض من جهة وإصرار الحريري وفريقه على اعتبار الهجوم عليه غير متصل بموقف دمشق، وبالتالي تجنبها في أي ردود على الحملة ضده، ثم اتصال الرئيس بشار الأسد به أول من أمس، معطوفاً على الجهود السورية مع الحلفاء لتهدئة السجال العنيف وإبقائه تحت سقف القمة السعودية – السورية – اللبنانية في 30 تموز (يوليو) الماضي، أعاد الاعتبار لهذه القمة، فإن هذا كله لم يلغِ الغموض الذي لفّ الأجوبة على الأسئلة الكثيرة التي أحاطت بأسباب ما حصل. لقد انقلب الترحيب بما قاله الحريري فوراً الى تشكيك به، عبر مطالبته من قبل الحليف الرئيس لدمشق، أي «حزب الله»، بترجمة عملية لكلامه وباستكمال مراجعته بتراجعات أخرى، إذ إن الحزب يريد منه موقفاً يتعدى شهود الزور الى ما يشبه التبرؤ من المحكمة الدولية، قبل أن يصدر القرار الاتهامي وقبل أن تنطق بأي حكم. فكل الشعارات التي طرحها الحزب وحلفاؤه تحت عنوان رفض القرار الاتهامي ومحاكمة شهود الزور ومحاكمة من وقف وراءهم هي الغطاء للمطلب الأساسي وهو إطفاء المحكمة أو إلغاؤها بنزع «الشرعية اللبنانية» عنها. وهو أمر يتجاوز التفاهم السعودي - السوري، الذي لم يشمل في أي مرة هذا العنوان، بل اقتصر على التوافق على مسعى سعودي من أجل تأجيل القرار الظني، وقامت الرياض بما عليها في هذا الصدد من دون أن تتلقى أجوبة إيجابية من قبل الدول الفاعلة في هذا المجال. وأوحت الحملة على الحريري تحت عناوين شهود الزور والقرار الظني، بأن المطلب الفعلي هو إطفاء المحكمة كبند مطلوب إضافته الى التفاهم السعودي – السوري، في وقت كانت دمشق أبلغت بعض من يعنيهم الأمر أنه لا يمكن مطالبة الحريري بالتخلي عن المحكمة، وفي وقت دفعت المملكة العربية السعودية جزءاً من حصتها في تمويلها، بينما مطلب تأجيل القرار الاتهامي رد عليه المدعي العام الدولي نفسه حين قال إنه لم يكتبه بعد... ليس هدف «حزب الله» خوض معركة فضح شهود الزور، إذ إن حملته على الحريري جاءت بعد أيام قليلة على قرار مجلس الوزراء تكليف وزير العدل إعداد ملف هؤلاء ولم تنتظر متابعة هذا الأمر، والتفسير الوحيد لذلك هو أن هذا الملف هو وسيلة الانقضاض على المحكمة، لإضافته بنداً من بنود التفاهم السعودي – السوري، في وقت لا يبدو أن الرياض في هذا الوارد، مقابل تمسك دمشق بمبدأ عدم التخلي عن حلفائها حتى لو «أخطأوا» في خرق سقف هذا التفاهم أو ذهبوا بعيداً ولامسوا مخاطر تبديد هذا التفاهم وآثار ذلك على الاستقرار اللبناني... فدمشق ما زالت في حاجة الى تحالفها مع إيران و «حزب الله» والعكس صحيح. وهي تريد الاحتفاظ بتفاهمها مع الرياض. ولبنان سيبقى عرضة للتجاذب بين المعادلتين، خصوصاً أن طهران تعتبر المحكمة «صهيونية».