ألحوا عليَّ أن أدخل حجرة الشاب مع أني طلبت مقابلة المدير، وبعد شدِّ وجذب، وافقتُ علَّه يملك حلَّا لهذه المشكلة. حجرة أنيقة، يجلس شاب لم يتجاوز الأربعين على مكتبها الكبير، ابتسم ابتسامة مجاملة، لم يقف، بل مدَّ يده ليصافحني، أشار إلى كرسي فخم أمام المكتب، يريدني أن أجلس، سألني عما أريد، أجبته أني أريد أن أقابل المدير. أطرق هنيهة ثم قال: هو مشغول الآن، وأنا هنا مكانه. أخبرته أني أتيت ثلاثين مرة؛ وفي كل مرة مشغول، من واجبه أن يقابلنا؛ نحن أولياء أمور ولسنا متسولين. ابتسم ابتسامة صفراء. واستطرد: أنا هنا مكانه، أو قد تقول - يعني - أني المدير. رفعت حاجبي تعجبًا فقال بسرعة: كيف يمكن أن أساعدك؟ أخبرته أن مدرس اللغة الإنجليزية يجبر الأولاد على الدروس الخصوصية بطريقة لا تليق بهذا المكان، و... وقبل أن أكمل فوجئت به يقول: اللغة الإنجليزية مهمة كما تعرف، ولكن مع هذا سوف أحدث المدرس، عندك حق لا ينبغي أن يجبرهم. أترى ها أنا قد حللت لك مشكلتك... ألم أقل لك إني مثل المدير. وقف، مدَّ يده مصافحًا منهيًّا المقابلة. اضطررت للقيام؛ لكني لم أمد له يدي مصافحًا. خرجت من غرفته يعلو وجهي الغضب. قررت أن أنقل أولادي من هذه المدرسة. قرب الباب وقفت أدخن سيجارة، أستعيد بها بعض هدوئي. أنفث بها عن غضبي، هبت نسمة رغم الحرِّ منعشة، اقتنصتُ منها ما استطاعت رئتاي أن تتحملا، جاء الفرَّاش طالبًا سيجارة... أعطيته. قال لي: لم تتمكن من مقابلة المدير! صحيح؟ * نعم. * ولن تتمكن... ازدرت ريقي، غطَّى انفعاله بابتسامة ساخرة، رجوته أن يفصح، رمى سيجارته، نظر إليَّ شذرًا، قال دون أن يهتم بمَن يمر بجواره: إن المدير مستنسخ من الرئيس. شيء ما انتشلني من الوعي، لم أفهم ماذا يقصد، قلت: ما هذا الكلام؟ * غريب أنك لا تعرف... كل البلد تعرف. تركني حائرًا لا أدري ماذا يقصد... تذكرتُ عملي، كان لا بد أن أنصرف، لا وقت لهذا الهُراء، ركبتُ سيارتي بسرعة، وصلت إلى العمل متأخرًا عشر دقائق. لم يصل رئيس المصلحة كالعادة، ذهبت إلى مكتبي كي أعدَّ بعض الأوراق لأعرضها عليه. وصل رئيس المصلحة متأخرًا ساعة كاملة، هو دائمًا يصل متأخرًا، لا أحد يحاسبه. وهو لا يحاسب أحدًا. سبقني زميلي ببضع خطوات، فتح الباب ودلف إلى حجرة مكتبه، وسَّعت خطواتي لألحق الباب قبل أن يُغلق. ما إن دخلت الحجرة حتى وجدت زميلي يكيل عبارات المديح والثناء والعرفان لرئيس المصلحة.. قام بتعداد مزاياه، وكيف أنه مضبوط في كل شيء: مواعيده، خِدْمَاته للجماهير، حكمته، حنكته في الإدارة، تحدث عن كرمه وصدقه وشهامته وشجاعته. أخبره أنه هو القدير، والبصير، والقوي،... والجميل، والوسيم، وكلما زادت كلمات زميلي انتفخ الرئيس... خفتُ عليه الانفجار، تنحنحت، علَّه يحس بوجودي، لكنه لم يعرني اهتمامًا، وواصل النظر إلى زميلي المادح دائمًا. ظل الحال حوالي الساعة، وزميلي لا يكف، والرئيس لا يعيرني اهتمامًا، تقدمت إلى المكتب، وضعت الملف وخرجت... انتظرتُ أمام الباب حتى أعاتب ذلك المادح، وأرجوه أن يتقي الله في كلامه، خرج زميلي أخيرًا، ودخل مكتبه بسرعة، دخلت وراءه، انتظرتُ حتى أكمل شرب زجاجة ماء كاملة... بادرته بغضب: ما هذا الذي كنت تصنعه عند رئيس المصلحة؟ نظر إلي باستغراب، وقال: هذا عادي...! * عادي كيف؟! ولا صفة من هذه الصفات التي كنت... قاطعني قائلًا: يبدو أنك لا تعرف... علت نبرةَ صوتي الدهشةُ: أعرف ماذا...؟! قال بصوت مرتفع: ألا تعرف أن الرئيس مستنسخ من الرئيس... البلد كلها تعرف... * ماذا؟ خرجت من العمل، كلمات زميلي والفرَّاش ترنّ في أذني... ماذا يقصدان؟ وبينما أنا هائم على وجهي أفكر وأتأمل هذا الكلام، أحسست بيد على كتفي، فزعت، وقبل أن ألتفت، جاءني صوته... إنه صاحبي. * فيمَ أنت مشغول هكذا؟ خجلتُ أن أصارحه بما في نفسي، فقلت له: لا شيء... مجرد تفكير. * ما رأيك أن نجلس على هذا المقهى حتى تهدأ؟ * لا بأس ولكن لا أريد أن أتأخر... فإني استيقظت مبكرًا.. وأريد أن أرتاح قليلًا. * اتفقنا. المقهى مزدحم جدًّا على غير العادة، كأننا في مظاهرة... هناك الجالسون على الكراسي، والقاعدون على الرصيف، والمنتظرون دورهم... ذهب صديقي إلى (القهوجي)، ووضع في يده شيئًا...، ورجع بكرسيين مكسورين... * ستشرب الشاي الآن، وتحكي لي عما يشغل بالك. * لا شيء... الأمر أني كنت اليوم... قاطعني (القهوجي) وضع كوبين من الشاي. ثم انصرف... أمسكت كوبًا، وأردفت: كنت في مدرسة أولادي... ارتشفتُ رشفة، لكني لم أستطع أن أبتلعها، الشاي ليس شايًّا، ولا هو أقرب إلى أي مشروب تذوقته قبلًا. قلت لصاحبي غاضبًا: ما هذا؟! المقهى مزدحم، وأنتَ رشوت (القهوجي) ليأتي لنا بكرسيين مكسورين، وهذا الذي أتانا به ليس شايا... ابتسم وقال: هوِّن عليك... انظر إلى المعلم صاحب القهوة... نظرت فإذا بالناس يرمون إليه الأموال، وهو يسعى جاهدًا لجمعها، قلت باستغراب: * ماذا يحدث؟! * يبدو أنك لا تعرف... البلد كلها تعرف. * أعرف ماذا؟ * المعلم مستنسخ من الرئيس... انظر إلى كل هذه الوجوه... لم تأتِ لتتناول مشروبات، وإنما لتجامل الرئيس، أقصد المعلم... لم أعلق على ما سمعته... تركته وانصرفت،... رأسي مشتت، لا أستطيع أن أفهم ماذا يقصدون... لم أدرِ بنفسي إلا أمام العمارة التي أقطن فيها... وجه غريب يجلس في مقدمتها شامخًا... سألته: أين البواب؟ رد بافتخار: أنا البواب الجديد. * وأين البواب القديم...؟ ارتسمت على وجهه ملامح أسى، قال: ارتمت زوجه في أحضان ابن الجيران، مع أنه قتل أخاها وابن عمها... لا أحد يعرف أين هو... لا تقلق... سيرجع قويًّا كما كان دائمًا. مال عليّ، وبدا صوته هامسًا: يقولون إنها مستنسخة من الرئيس... برقت عيناي... كدت أصرخ، لولا أني فضلت الانسحاب. على باب الشقة، سمعت همهمات غافلت الباب وخرجت... كأنها أصوات استغاثة...، فتحت الباب فزعًا وجلًا، خفقان القلب كاد يخترق الثوب، زوجتي تمسك بكرباج طويل، تجلد به ابني وابنتي المقيدين على الكراسي، مكممة أفواههم...، وجوههم مخطوفة بالفزع، أسرعت إلى ابنتي بحركات لا إرادية، أزلت الكمامة من على فمها... صرخت: احذر يا أبي. أمي مستنسخة... نظرت ناحية زوجتي فوجدتها قد أمسكت ب (فاظة) جميلة عليها نقوشٌ عربية قديمة... وقبل أن أتحرك كانت (الفاظة) طائرةً في الهواء... صدمتني في رأسي صدمةً قوية. قبل أن أصرخ دق جرس المنبه، استيقظت، حمدت الله أنه كان حلمًا... كان حلما سخيفًا... بل كابوسًا مخيفًا. نظرت إلى الساعة، فوجدتها السادسة صباحًا... تذكرت أني لا بدَّ أن أمر اليوم على مدرسة أولادي؛ لأشكو مدرس اللغة الإنجليزية. ٭ أكاديمي وقاص مصري