نظافة البيئة وفضح الاستعمار الابيض للشعوب البدائية: امران كانا طوال القرن العشرين من بين الشغل الشاغل للمدافعين عن وجود الانسان في الكون وكرامته. وها هما الآن مع بدايات القرن الحادي والعشرين يبدوان ايضاً وايضاً، شغلاً شاغلاً بل ثمة من يعتبرهما الموضوعين الاهم، خصوصاً ان مناصرة البيئة راحت تتخذ اشكالاً عنيفة منذ عقود، وان الاستعمار الابيض راح يرتدي ثياباً جديدة متنوعة الاسماء والاشكال. السينما، ثم ضروب الابداع الاخرى، بكّرت، في الحقيقة، في الاهتمام بمثل هذا النوع من المشاغل. ولربما صح القول ان هذا الفن السابع في جزء منه، وحين بدأ يستكشف العوالم الفردوسية، سار على خطوات كان سار عليها من قبله مفكرون وكتاب وفنانون. ولعل الفنان الاكثر اهتماماً بالأمر كان غوغان، الذي عاش بعض آخر سنوات حياته في جزر بحار الجنوب راسماً عن الحياة فيها لوحات رائعة. ويمكن في هذا الاطار ايضاً ذكر الكاتب روبرت لويس ستفنسون، والفرنسي فكتور سيغالان. اما في السينما فلا ريب ان الاميركي الايرلندي الاصل روبرت فلاهرتي، كان من اوائل الذين اهتموا بحمل كاميراهم والتوجه الى تلك الاماكن الخلابة لتصويرها وتصوير حياة الناس البسيطة الهادئة فيها. واذا كان فلاهرتي، في «نانوك الشمال» ثم في «موانا» قد صور حضارتين بعيدتين عن «المركز الابيض» وصوّر كيف جرى الاحتكاك السلمي الاول بين تينك الحضارتين، وبين حضارة البيض الوافدة، فإن فلاهرتي نفسه كان من المفروض ان يصوّر نوعاً آخر من الاحتكاك: نوعاً غير سلمي في فيلم «ظلال بيض في بحار الجنوب». ولكن بعد ان بدأ بالتصوير يساعده وودي اس. فان دايك، الذي عرف اولاً كمساعد لغريفيت (في «تعصب» و «مولد أمة»)، تخلّى فلاهرتي عن الفيلم ليكمله فان دايك داخلاً عالم الاخراج، عبر فيلم قاس سيقول هو لاحقاً انه ليس «مسؤولاً عن ابعاده الفكرية والسياسية» اذ كل ما في الامر انه استكمله تقنياً من دون ان يتبنى الافكار التي فيه. و «هذه الافكار» التي تخلى عنها فان دايك، لعلها افضل ما في الفيلم... لأن «ظلال بيضاء...» عرف كيف «يغوص في نقاء اصيل بعيداً من المصنوعات الهوليوودية»، مقدّماً حكاية تكشف في الوقت نفسه خبث الانسان الابيض وجشعه في التعاطي مع المناطق البدائية، ومن ناحية ثانية كيف اخفق الانسان الابيض في تعاطيه مع سكان تلك المناطق، فخسر موعداً آخر من مواعيده، بحسب تعبير كان يمكن ان يقوله عالم الانثروبولوجيا الفرنسي الكبير كلود - ليفي ستراوس. ومهما يكن من شأن علاقة فان دايك الفكرية بالفيلم، فإن ما يمكن قوله هنا هو ان منتجي الفيلم، اذ اقتبسوه عن رواية لفردريك اوبزاين، لم يكن في نيتهم ابداً ان يقدّموا عبره مرافعة سياسية او اجتماعية او بيئية، وبالتالي لم يكونوا ينوون تقديم عمل ذي مغزى حضاري. كانت غرابة المكان وحس المغامرة ومعرفة ان الجمهور متعطش - في ذلك الوقت الذي بدأت فيه السينما تتكلم - الى مشاهدة الاماكن التي تغربه وتبعده عن واقعه. اما المعاني (العفوية) التي تبدت من خلال الفيلم، فلقد ظهرت لاحقاً، وعلى يد النقاد والباحثين، ولا سيما حين راحت تظهر تلك الافكار البيئية والمناهضة للاستعمار الفاضحة لما يقترف الرجل الابيض في الفراديس النائية. تدور احداث الفيلم في جزر البولينيزيا، التي تقدّم الينا منذ بداية الفيلم على انها «آخر ما تبقى من الفراديس الارضية» في هذا العالم. وهناك نعرف ان «جشع الرجل الابيض» قد ارخى مرساته في المكان، وكله رغبة - على حد قول ممثليه - في ان يمدّن شعوب تلك البلاد. ويحدث ذلك في الفيلم من خلال حكاية الدكتور لويد، ذي النيات الطيبة الذي كان قصد تلك المنطقة، من ناحية ليكتشف ما فيها من جمال، ومن ناحية ثانية ليقدم كل ما يمكنه من خدمات لسكانها. والدكتور لويد منذ البداية يقف الى جانب اهل البلاد، ضد جشع مواطنيه البيض، ويدافع عن اهل الجزر بكل ما لديه من قوة وطاقة. لكن هذا يؤدي به الى ان يعزل معهم، حين يقرر الغزاة البيض الجشعون عزلهم وبدء نهبهم واساءة معاملتهم مجازفين بالاساءة، في الوقت نفسه، الى العالم الطبيعي الخلاب الذي يعيشون فيه. فالتجارة هنا يجب ان تسبق كل شيء. وجمال الطبيعة امر يجب ان ينتمي الى الماضي. لا مكان له في عالم السوق الابيض. حين يعزل البيض ابن جلدتهم لويد، لا يبدو على هذا اول الامر انه مبالٍ كثيراً بالأمر. بل انه يتزوج فتاة حسناء من اهل الجزر ويعيش معها حياة سعيدة كلها التحام بالطبيعة... ولكن شيئاً فشيئاً تتحقق مقولة «الطبع يغلب التطبع»... فإذا بالدكتور لويد يتغيّر بالتدريج ليغلب عليه هو الآخر جشع الرجل الابيض وسوء نياته... وهكذا يعود الى طبيعته ويخوض عالم السوق والنهب المنتظم. ولكن هنا، وهو لا يزال في بداية تبدلاته، يحدث له ان يقتل على ايدي المهربين، الذين كان يفترض هو انه سوف يتعاون معهم. واذ يلفظ انفاسه الاخيرة في احضان زوجته الحبيبة، لا تجد هذه سوى اليأس مآلاً لها وينتهي بها الامر الى ان تتحول الى فتاة هوى: لقد مدّنت تماماً، وصارت جزءاً من هذه الحضارة الهاجمة، الحضارة التي انطلاقاً من مفاهيم السوق والتجارة والنهب المنتظم، لا تتردد امام سحق الطبيعة والحاق الاذى بالبشر الذين كانوا امضوا حياتهم كلها في عيش هادئ بعيد من حداثة تلك الحضارة الوافدة. لقد كان الدرس الذي اراد فيلم «ظلال بيض في بحار الجنوب» ان يعبّر عنه عنيفاً وقاسياً، لكن المشكلة كمنت في ان رسالة الفيلم لم تصل، اول الامر، تماماً. وذلك لأن المخرج، ولسوف يكون لاحقاً من كبار التقنيين في هوليوود ولا سيما حين ستصبح افلامه مجرد اعمال تقنية من دون مغزى او هدف، اهتم كثيراً بتصوير الاجواء دونما تركيز على المعاني. وهكذا تحوّل الفيلم الذي كان يجب ان يكون انشودة حب الى الطبيعة، كما حكاية حب رائعة بين الدكتور وحبيبته، تحوّل الى فيلم مغامرات ونيّات طيبة، حتى وان كان من الواضح ان بداية الفيلم كانت تعد بأن تجعل منه مرافعة ضد العنصرية. ومهما يكن من الامر فإن اكتشاف النقاد اللاحق للفيلم وتفسيرهم له على ضوء ضروب وعي جديدة، عاد وأقام نوعاً من التوازن بين سماته الثلاث: كونه فيلم مغامرات وتغريب، وفيلم حب شاعري، وقصيدة بيئوية حقيقية. ولا ننسينّ هنا سمته الاساسية الثالثة: كونه تبدى في نهاية الأمر فيلماً سوداوياً متشائماً تجاه ضرورة انقاذ الحياة الفطرية والبيئة واهل المناطق النائية. فيلم «ظلال بيض في بحار الجنوب» الذي قال عنه السينمائي الكبير لوي بونييل انه في نظره «اجمل فيلم حب» شاهده خلال تلك المرحلة من حياته، حقق في العام 1928، ليكون واحداً من اول الافلام السينمائية الناطقة. ولعل واحدة من اهم مزايا هذا الفيلم صورته التي عرفت في كل لحظة كيف تصور الحلم والواقع في بوتقة ضوئية واحدة وخلابة في آن معاً. اما مخرج الفيلم وودي. س. فان دايك، فإنه نال من بعد هذا الفيلم شهرة ظلت ترافقة حتى سنواته الاخيرة، هو الذي رحل العام 1943 عن ثلاث وخمسين سنة، عرف في آخرها كمخرج بارع، لكنه ناجح تجارياً، اضافة الى انه كان اول من حقق فيلماً عن طرزان (وفيلمه الذي مثله جوني ويسمولر، يظل الافضل حتى اليوم بين افلام السلسلة الطرزانية). ومن اعماله الاخرى الناجحة: «ماري انطوانيت» و «عدو الشعب رقم 1». [email protected]