كما كان متوقعاً، التحق محمود عباس، تلبية لدعوة منعت الاشتراطات الفلسطينية المسبقة، بالمفاوضات مع إسرائيل في الولاياتالمتحدة الأميركية، على رغم حجم الاعتراض الحزبي والشعبي الفلسطينيين. كسرُ الإجماع الذي تحقق حول رفض العودة للمفاوضات، بصرف النظر عن الدوافع المختلفة للمعترضين، يعيد طرح مدى الشرعية الشعبية لعباس و «سلطة رام الله» من جديد، بل ويطرح على طاولة البحث مصدر الشرعية الوطنية التي تسمح له بتمثيل الشعب الفلسطيني، وماهية النظام السياسي الفلسطيني الذي فشل في منعه من الخروج عن رغبة الغالبية. فالمعارضة، على رغم اتساعها في شأن المفاوضات، بدت مشلولة لأسباب عدة، منها: أولاً، عدم وجود معترض جدي في النظام العربي، فأطرافه إما راعٍ، أو متحفظ بانتظار اتضاح المدى الذي ستذهب إليه الولاياتالمتحدة بخصوص إعادة ترتيب استراتيجيتها في المنطقة ووسائل عملها. ثانياً، غياب خيارات سياسية بديلة من الممكن أن تحصل على إجماع القوى الفلسطينية المعترضة. ثالثاً، الانقسام داخل القوى بين من يرفض العملية السياسية برمتها وبين من يحصر اعتراضه في غياب ضمانات بخصوص ملفي القدس والاستيطان حصراً. رابعاً، اهتمام حركة حماس بالضغط من أجل إدخالها في العملية ذاتها، والتركيز السوري على هذا المطلب، ما يفتح على تعدد التمثيل الفلسطيني، وهو ما ينتج تخوفات عند أطراف فلسطينية عدة تزيد من ترددها، وشكها بإمكانية بناء تحالف وطني معارض. «المؤسسات» التي بنيت في بعض مناطق الضفة وقطاع غزة، والتي قُدمت على أنها «الديموقراطية الفلسطينية» على رغم وقوعها تحت الاحتلال، وعلى رغم عدم تمثيلها الغالبية الفلسطينية في الشتات وفي الأراضي المحتلة عام 1948، والتي طُرحت كنظام بديل لحركة التحرر الفلسطيني، تحطمت في قطاع غزة تحت مطرقة حركة حماس، وتطورت إلى ورم أمني، مرتبط بالاحتلال، ومزين بزركشة اقتصادية، في الضفة الغربية، تحت حجة «ضرورات بناء الدولة». وبعد أن تبين أن لا دولة «قابلة للحياة» في الأفق (وكنا قد احتجنا إلى عقدين لنشهد اعتراف بناة الدولة بفشلهم!) وجدنا أنفسنا أمام سلطة عصية على التراجع عنها، كونها تحولت مصلحةً لأصحابها من جهة، وأصبحت موضوع صراع بين القوى الفلسطينية الأساسية من جهة أخرى، ولما لوجودها من وظيفة دولية وإقليمية وإسرائيلية من جهة أخيرة. ومنذ أن نتكلم على وظيفة، يحال مصدر شرعية السلطة إلى الخارج، ويصبح الاستمرار في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية أحدى ركائز هذه الشرعية. وهو ما يعود بالنفع على «الخارج»، الإدارة الأميركية الباحثة عن صورة تلفزيونية للنجاح وإثبات القدرة، وإسرائيل الساعية لمواجهة حملات نزع الشرعية التي تتعرض لها في العالم. لذلك، من الصعب على سلطة رام الله أن ترفض تلبية الدعوة التي وجهت لها لتنفيذ جزء من وظيفتها، مهما عبر قادتها عن امتعاضهم، ويقينهم بخوائها وعدم جدواها. فهل تستطيع سلطة هذه حالها الدفاع عن أي مصلحة فلسطينية، مهما كانت ضئيلة؟ «المسارات الإجبارية» هي العنوان، والتوصيف الأدق غالباً لحركة السلطة برام الله أياً كان القائمون عليها. ففي شروط الوضع الراهن، أو في شروط مشابهة، من الرعونة الإدعاء بإمكانية الحفاظ على بنية وامتيازاتها والقدرة على الانفلات من قبضة ضروراتها في الوقت عينه. بناء على هذا الفهم يمكن إدراك مدى سخف اعتراض المعترضين ممن يشتركون مع عباس في مشروع إقامة «الدولة في الضفة والقطاع». فهذه لن تقوم – إن قامت يوماً - إلا كتلبية لأسباب أميركية وإسرائيلية، وفي حدود تتناسب مع الحاجة الإسرائيلية، وحين يجمع النظام الصهيوني في إسرائيل على إدراك هذه الحاجة، ويضع تصوراً مفيداً له لطبيعة هذه الدولة. وهو المعنى الوحيد للخطاب الأميركي - الأوروبي الذي ما فتئ يتلو آيات الهداية على إسرائيل بأن «الدولة الفلسطينية مصلحة إسرائيلية»، على ما عبر عنه أيضاً قادة حزب العمل الصهيوني في مؤتمر «هرتسليا» الأخير، وشاركهم في التصريح عدد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية، بالقول: «إما القبول بدولة فلسطينية أو الذهاب لدولة ثنائية القومية». حتى أن قادة السلطة، ومنظريها، كرروا من دون ملل إشارتهم إلى أن «عدم الوصول لتسوية سيؤدي لانهيار السلطة». وأكثرهم جرأة صرح بأن «فشل حل الدولتين سيؤدي للانتقال لحل الدولة الواحدة». وإذا كانت النصائح الأميركية والأوروبية، والفلسطينية، لإسرائيل توحي بأن الطفل المدلل للغرب أرعن لا يدرك مصلحته فإن الحقيقة الساطعة لهذه النصائح مفادها: أن الجميع يدرك أن مبرر وجود السلطة وضمانة استمرارها، هو في مدى قناعة إسرائيل بالمنفعة التي تحققها لها. وللحظة التي نعيشها، لا يزال الوجود الشعبي الفلسطيني هو المعضلة، ومبعث الإرباك الأساسي، لدولة استعمار إحلالي قائمة على أساس النقاء العرقي الذي يستدعي «التطهير» بحق أصحاب الأرض الأصليين. والحل الدولي القائم على أساس «دولتين لشعبين» يفترض أن استكمال المشروع الصهيوني في الأراضي المحتلة عام 1948، ومنه تهويد الأرض والدولة، ممكن في حال خُصِصَت للفلسطينيين مساحة كافية لإنشاء «دولة قابلة للحياة». المعضلة أن لا إجماع إسرائيلياً على هذه المصلحة، وأن هناك غالبية انتخبت اليمين المتطرف ترى أن لا خطر جدياً يهدد كيانها ويجبرها على تقديم تنازلات، وأن استكمال التطهير العرقي ممكن من دون الحاجة لوهب جزء من الأرض للفلسطينيين، وأن الانهيار الفلسطيني سيساعد الزمن في تهيئة الوضع المناسب لاستكمال ما بُدئ عام 1948، إضافة لغياب أية ضمانات بأن إنشاء دولة فلسطينية في بعض أراضي الضفة والقطاع سينهي الصراع. وفي الطرف المقابل ما زال اللاجئون الفلسطينيون يراهنون على الزمن وحدوث تغييرات تسمح لهم بفرض مشاركتهم السياسية، ولا يزال فلسطينيو الاحتلال الأول يطورون مؤسساتهم الخاصة، وينظمون مطالبهم التي تتضمن مزيداً من الحقوق، ويرفضون يهودية الدولة التي فرضت عليهم.