ليس تخيلاً، ولا مشهداً من فيلم سينمائي، ولا كابوساً، ولا حلم يقظة. المشهد حقيقة فاقعة واضحة، منظر شاحنة محمّلة بجثث وبقايا جثث، للمجاهدين، والمتدفقين إلى كسب وقراها عبر الحدود التركية، لا يهم ماذا نسميهم، عصابات، مجاهدين، قتلة مأجورين، سلفيين، لكنهم ليسوا بالتأكيد حيوانات ولا أضاحي عيد مذبوحة تُنقل من المسلخ إلى دكان اللحام أو توزع على الجمعيات الخيرية. إنهم بالتأكيد بشر أي إنسان خُلق على صورة الله ومثاله كما تتفق كل الأديان. منظر الشاحنة المحملة بالجثث المشوهة وبقايا جثث هؤلاء الشبان الذين قتلوا في معركة كسب، تجوب بعضاً من شوارع اللاذقية كي يتفرج الناس على مصير كل من يتجرأ ويدخل إلى سورية بغاية تدميرها وقتل السوريين وقلقلة النظام. منظر يفوق قدرة بشري على التحمل، اللقطة تصلح لفيلم رعب من الطراز الأول، الناس ذاهلون واقفون في الشارع وبعضهم يحمل طفله بين ذراعيه كي يشارك الطفل في فيلم الرعب، وكي تنطبع تلك الصورة في تلافيف دماغه كالوشم إلى الأبد، الشاحنة تستعرض حمولتها من جثث الإرهابيين، وتتباهى أن الجيش السوري قضى على هؤلاء المخربين المجرمين، وتعرض على الناس أشلاءهم! أعترف بعجزي عن تحليل هكذا مشهد مروع، ربما عليَّ أن أستنجد بفرويد ويونغ وكل ما كُتب من علم نفس وتحليل نفسي، كي أستطيع التعبير عن الأذى النفسي المُدمِّر والمروع لتلك الشاحنة التي تستعرض حمولتها من الجثث لشبان، لبشر، لإنسان هو صورتي ومرآتي وهو يوشوشني بمصيري أيضاً، يُشعرني بطريقة ما أنني في المقلب الآخر يُمكن أن أتبادل الأدوار مع الجثث الطازجة أو ما تبقّى منها، لا أعرف ما الغاية من استعراض جثث هؤلاء الشبان مهما كان تصنيفهم وتقييمهم - حتى لو كانوا من أعتى المجرمين - ما الغاية أن يتم استعراض جثثهم والتجوال بها عبر شاحنة في العديد من شوارع اللاذقية، كما لو أن المواطن السوري لم يُروَّع كفاية، لم تطفح ذاكرته عبر أكثر من ثلاث سنوات بصور آلاف القتلى والمذبوحين والمقابر الجماعية والمجازر الجماعية، كما لو أن المواطن السوري يحتاج وهو في قلب مأساته لاستعراض يشبه السيرك المتجول لا بهدف ترفيهه وعرض قِرَدة خفيفة الظل تقوم بحركات مُضحكة على ظهر شاحنة، بل ليُؤكد له بالنظر والسمع والرائحة الخانقة للجثث أن هذا مصير الخائن ومن يتجرأ على المساس بسورية قلعة الصمود والعروبة. لا يدرك صاحب فكرة شاحنة الجثث أن هذا المشهد الوحشي أشبه بالمرآة، فهؤلاء القتلى الشبان هم في المقلب الآخر يمكن أن يكونوا آلافاً من جنود الجيش العربي السوري، قتلوا على يد من يقاتلونهم، قتل مقابل قتل، جثث تنطح جثثاً، شاحنة تجوب شوارع اللاذقية بجثث شبان اكتسحوا كسب وغيرها من القرى، لكن عرض جثثهم بتلك الطريقة، يولد إرتكاساً مزدوجاً في ذاكرة المتفرج، إذ يشعر أن هؤلاء صورة لمصير الشبان السوريين المقاتلين، يا لذهول الخزي والقرف ونحن نشهد استعراضاً للموت في اللاذقية. الفن الوحيد المتبقي لدينا هو فنون الموت، ومعارض الفن الوحيدة الممكنة هي معارض لجثث شبان، أما غباء بعض الأهل الذين كانوا يحملون أطفالهم بين ذراعيهم ليتفرجوا على استعراض شاحنة الموت، فلا أعرف كيف أصفه، ربما أصابهم البله أو العته من هول ما عانوا وشهدوا طوال ثلاث سنوات، وقبلها خلال عقود من الذعر الصافي والهلع المتسلل إلى رئاتهم عبر الهواء. لم يعد لدى السوري أدنى شك من أنه صار حقل تجارب لشياطين العالم، تعبير الألم المزمن والتحمل واليأس يشم وجه السوريين كالوشم الذي تُشمّ به الخراف قبل أن تقاد للذبح. تنويعات اليأس والقنوط والإحساس باللاجدوى هي القاسم المشترك بين السوريين مهما اختلفت انتماءاتهم وولاءاتهم. الكل خاسر، الكل ذاهل من فظاعة ووحشية ما يجري، الكل يشعر بأن الموت أقرب من الحياة التي لم تعد تشبه الحياة بشيء، بل إن الموت الطبيعي أصبح قمة الرفاهية في سورية، أن تقرأ ورقة نعي لشخص مات من دون رصاصة استقرت في قلبه أو سكين حزّت عنقه، تشعر بدهشه وغرابة. قال لي أحد المتفرجين على استعراض شاحنة الموت: أحسستُ بدوار كما لو أنني أشهد نزوة مجنونة للشيطان، وخفت على ابني الذي لم يكمل الخامسة من عمره أن يجن حين سألني: هل هؤلاء بشر حقيقيون أم دمى! طفل دلّته غريزته وطفولته التي سُتخرب رغماً عنه وتُنتهك رغماً عنه، أن يحمي نفسه من هول ما يرى بأن هؤلاء القتلى ليسوا بشراً ولا حتى حيوانات بل دُمى، أو شخصيات كرتونية تموت وتتمزق، ولكنها سرعان ما تلحم أجزائها وتتحرك وتعيش. لم يعد في سورية حياة، فحياتنا مطمورة تحت أكوام من الجثث والدمار. لكن أكثر ما يُروعني هو مصير أطفال سورية الذين يُقدمون قرابين للشيطان، أي أذى نفسي مدمر تسببت به شاحنة الموت التي تستعرض حمولتها من جثث شبان في أرواح هؤلاء الأطفال الذين أراد العديد منهم أن يحمي نفسه من الجنون بالاعتقاد أنها دمى، غير عارفين أن العالم كله يتعامل مع السوريين كدمى يتسلى بها وليس كبشر يحترم إنسانيتهم. وحقهم في الحياة الكريمة. * كاتبة سورية