هذه المفاوضات المباشرة (طبعة 2010) وبعد 17 عاماً منذ جرى توقيع اتفاقيات أوسلو وما أحاطها من ضروب التفاوض المعلن والاتصالات السرية، هذه المفاوضات تحيي اليوم أوهاماً جديدة، تكرّس موت الآمال التي تبددت بفعل المماطلات الأميركية – الإسرائيلية في غمرة البحث في قضايا التسوية الدائمة، تلك التي جرى البحث فيها وجهاً لوجه مرتين خلال تلك الأعوام الطويلة أثناء عهدي كل من إيهود باراك وإيهود أولمرت، من دون الوصول إلى نتائج مكتوبة أو مُعلنة، تحسم جدل المتفاوضين، أو تحاول مقاربة موضوعات التفاوض في ما بينهما. فيما الولاياتالمتحدة وإذ تتبنى المقاربات الإسرائيلية للتسوية، لا تحاول ولم تستطع الخروج من جلدها، وهي تدعو إلى إرضاء الطرف الإسرائيلي، ما ظهّر ويظهّر مباحثات التسوية التي تجرى حتى الآن، وكأنها تتم بشرط أو بشروط إسرائيلية، والحال كذلك شئنا أم أبينا، وها هو نتانياهو يصول ويجول في ما يتعدى إطارات التسوية الراهنة، إلى منظورات ومفاهيم إستراتيجية أبعد، يريد من خلالها حسم الجدل حول «إسرائيل دولة يهودية خالصة» لا تعترف بالمواطنة وقوانينها، ولا بحق الأقلية في الاعتراف بكونها أصلانية في وطنها ووطن أجدادها. يقيناً، فإن نتانياهو بكامل الشروط التي تحيط زعامته لائتلاف من اليمين المتطرف، لن يستطيع تجاوز التوقعات والمفاجآت التي ما يني يعد بها، فلا هو ديغول، ولا هو رابين، حتى يمكن أسلوبه في التفاوض، أو جوهر ما يعرضه من «تنازلات مؤلمة»، أن يخلق أرضية تصلح لمفاجآت محتملة، أو متوقعة من جانبه، فسنة التفاوض لن تخلو من مفاجآت أو انقلابات درج نتانياهو على إحداثها في مسيرة حكمه. أما وأن ائتلافاً حكومياً يمينياً متطرفاً يحيط به اليوم، فإنه لا شك لن يكون في مقدوره أن يكون حراً في مجرد التعبير عن موقف يغاير مواقف أحزاب الائتلاف، فكيف يمكنه وهو الأشد انتماء وولاء وتقيّداً بأيديولوجية «إسرائيل الكبرى»، أن يجترح حلاًً أو حلولاً تناقض ذلك المشروع الأساس الذي أقيمت إسرائيل على أساسه، وهي تمضي اليوم وبمعية كامل تشكيلة اليمين القومي والديني المتطرف، للمنافحة ضد تسوية يمكن أن تُقدم بموجبها «تنازلات مؤلمة» عن بعض «إسرائيل الكبرى»، في المنطقة التي يطلقون عليها تسمية «يهودا والسامرة»!. ولأن نتانياهو لا يؤمن بضرورة وجود دولة فلسطينية مستقلة، تنهي الصراع وتوقف سيل المطالب الفلسطينية، فهو ومن دون شك معني بالأخص بما ينهي الصراع، ولكن... لا بما يحقق للفلسطينيين مشروعهم الوطني أو بعضه، ذلك الذي جرى تقليصه حتى، إلى حدود انتهت معها الحركة الوطنية الفلسطينية، أو تكاد؛ بفضل طبيعة المفاوضات المستوحدة، والأوهام المعقودة حولها وعليها، إلى طلاق بائن مع أهداف التحرر الوطني؛ لشعب لا يمكن قضيته الوطنية أن تتراجع في سياق تراجعات حركته الوطنية، نحو «جدار أخير» لا آفاق له أو لسماته التفاوضية التي تدق اليوم مساميرها في الجسد الحي للكفاح الوطني الفلسطيني، تاركة إياه في عراء المفاوضات من دون بدائل في حال فشلها، ومن دون سند مرجعي من حلفاء وداعمين وأصدقاء، باتوا يُستبعدون من فضاء التضامن والدعم، متروكين في العتم، بعيداً مما يفترض أنه مجالهم الحي والحيوي لدعم مشروع وطني فلسطيني، يتآكله النسيان والتجاهل والاستفراد والممارسات الأحادية – الإخضاعية – ذاتياً وموضوعياً. المشكلة ليست مشكلة نتانياهو وائتلافه الحكومي، والموقف الرسمي الأميركي الذي يرعى اصطفافه إلى جانب إسرائيل، المشكلة مشكلة المفاوضات ذاتها، بما حملت وتحمل من أوهام فلسطينية وعربية، لا يجد أصحابها في المفاوضات إلا خيارهم الأوحد، وفي التسوية التي لا تأتي امتحانهم الدائم نحو التقرّب من الولاياتالمتحدة، كراعية للاصطفاف الطبقي والجيو- ستراتيجي والسياسي الجديد، نحو إتمام صفقة «الشرق الأوسط الجديد» في أعقاب التطورات والمعطيات بسلبها وإيجابها، التي يحملها الوضع العراقي والأفغاني والإيراني إلى رصيد واشنطن في منطقتنا وفي بلادنا. وإذا كانت المفاوضات المباشرة قد تأجلت كل هذا الوقت، منذ ما بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو، وإجهاض المفاوضات التي أُجريت في عهدي حكومتي إيهود باراك وإيهود أولمرت، بما حملته من مماطلات ووعود تسويفية، فإن سنة من التفاوض حتى آب (أغسطس) 2011 لن يكون في مقدور الأطراف المتفاوضة خلالها، زحزحة المواقف المتصلبة لنتانياهو وائتلافه الحكومي، والمدعومة أميركياً، في سعيهم لإخضاع الفلسطينيين، بابتزاز موافقتهم على صيغة «سلام اقتصادي»، ينطوي على تسوية يجرى التوصل بموجبها إلى شكل من أشكال الحكم الذاتي، أو الإدارة المدنية للسكان الذين سيُحكمون من «سلطة فلسطينية» يجرى التوافق في شأنها خلال السنوات العشر التي سيستغرقها تنفيد التسوية، بحسب المقترح الأميركي، وهي تسوية لا تُعنى بالأرض، وإنما مجالها السكان، وهي أقرب إلى تسوية ديموغرافية وعقارية، أكثر منها تسوية سياسية بين طرفين سياسيين، يمتلكان كامل حرية المقاربة والمباعدة بين مواقفهما، بوجود شريك أميركي كامل لإسرائيل، وشركاء عرب هم أقرب إلى تنفيذ الأجندة الأميركية منها إلى الأجندة الفلسطينية المستفردة والوحيدة. وفي مطلق الأحوال، فإن المفاوضات الموعودة لسنة من أجل تهيئة مسرح المنطقة لتنفيذ تسوية من طبيعة أمنية، خلال السنوات العشر المقبلة، لن يكون مآلها على الأرض، سوى أنها ستفضي إلى زيادة أعداد المستوطنين وارتفاع في وحدات البناء الاستيطاني سواء في المناطق المعزولة أو في المستوطنات الكبرى، بالترافق مع مزيد من الأسرلة والتهويد لأرض وبيوت وممتلكات المزيد من المواطنين الفلسطينيين. فأين هي أرض الدولة الفلسطينية الموعودة ضمن مسيرة «حل الدولتين»، ذلك الوهم القاتل لأهداف التحرر الوطني، تلك التي باتت مُستبعدة من أجندات سلطة الطبقة، بعدما جرى الرهان على إبقائها لصيقة سلطة الشعب، وهي تنحلّ وتتفكك ذاتياً من داخل الاصطفاف الوطني – الطبقي، وموضوعياً يزداد اقترابها نحو الاصطفاف الدولتي الخارجي المتمحور حول تسوية بالمفهوم الأميركي – الإسرائيلي؛ هي وحدها المتوافرة عملياً على طاولة مفاوضات مباشرة، يزداد ميل موازين القوى فيها نحو كامل تشكيلة القوى المعادية للحقوق الوطنية الفلسطينية بمفهوم الشعب الفلسطيني، وكامل تشكيلة المؤمنين بحقوقه الوطنية التاريخية العادلة. * كاتب فلسطيني