عندما قرأت أن أحد محاور مؤتمر الأدباء السعوديين الخامس سيتناول دور المثقف في محاربة فكر التطرف وتأمين الأمن الفكري، بيّت النية على المشاركة، على رغم يقيني المسبق أن ورقتي سترفض لأسباب سأتطرق إليها. ما دفعني إلى الرغبة في المشاركة هو أني حقاً مهتم بهذا الشأن، ثم إني غالباً ما أحضر مثل هذه المؤتمرات، سواء في مناشط أدبية أم على هامش المنتديات الأدبية ومعارض الكتب، وأسمع وأقرأ هشاشة معظم الأوراق التي تقدم وتكرارها وتكرار الأسماء التي تقدمها، وكل مقومات هذه الأوراق في الغالب هو التزامها أو مراعاتها للنسق الأكاديمي، بغض النظر عن المحتوى، ثم وهذا هو الأهم أن من يتقدم بها أكاديميون، ويزكيها ويقيمها أكاديميون، ويدعى لها أكاديميون، وعدا ذلك ما من قيمة علمية أو ثقافية (في الأغلب) لمثل هذه الأوراق، والدليل هو ندرة تأثير هذه الأوراق أو الأبحاث في المجتمع، وفي الوعي الجمعي بالمجمل، أو وصولها إليه. وكل ما يحدث هي حفلات علاقات عامة مكررة، يتبادل فيها هؤلاء دور الضيف والمضيف، ثم لا شيء. كنت أعرف أن ورقتي سترفض وأعرف أيضاً أن غيري ممن يمارسون الثقافة كهم وليس وظيفة سترفض أوراقهم، وقد رفضت سابقاً، لأن أسماءنا مغمورة ولا يسبقها حرف الدال في المقام الأول، ثم إنها مباشرة ولا تعرف كيف ترتدي الألوان الرمادية القابلة لكل تفسير. ورفض مشروع ورقتي المتواضعة التي أدعي وأعترف أنها اجتهاد لا أكثر، ولا يهمني مطلقاً، وأنا لا أنتمي إلى أي تكتل ثقافي أو فكري، ولكن ما يهمني أن أكرر ما سبق وقلته لهؤلاء الأكاديميين: كفى لقد مللناكم. بالطبع كان رد وتبرير القائمين على هذا المنشط بحسب قولهم هو ابتعادي عن المحور، وهم يريدون وضع كلمات في فمي، ويريدون مني إثبات دور المثقف في مقارعة التطرف، وأنا أرى ومن وجهة نظر تخصني أن المثقف لم يقدم شيئاً في هذا المجال باعتباره لم يدع من الأساس لمثل هذا الدور ولم يسمح له، وأنه هو ظل على الدوام أحد ضحايا التطرف وألد أعدائهم، عبر تبشيره بروح الإنسان قبل كل شيء، وباعتباره الكاشف لنواياهم الأممية، وبالتالي فالادعاء بمنجز ثقافي هو نوع من التجميل الذي يتكرر في كل محفل، تجميل يرضي المسؤول ولكنه لا يغير شيئاً في الواقع. الأكاديمي ليس مفكراً قد يكون الأكاديمي مميزاً بين طلابه وفي مدرجات الجامعة مبرزاً في تخصصه، لكنه ليس بالضرورة أن يكون مميزاً على المستوى الفكري والأدبي، وليس مطلوباً منه.. وقد نغفر له مشاركته أحياناً من باب تنوع الأطياف والمشارب، ولكن ما يحدث شيء مختلف، وأصبح هو الحاضر على الدوام، بل وأستطيع ذكر أسماء تتكرر في كل محفل وعلى مدار العام، وأسماء أخرى هي في الغالب الراعية أو المنظرة أو المقيّمة للمشاركات باعتبارها مصدر للثقة والأمان، ولن تطرح ما يقلق المزاج العام، وهذا في الغالب هو الأهم، وباختصار هذه المناشط ليست للمثقفين، حتى وإن حملت هذا العنوان على الدوام. وما يتكرر في حواضن هذه المناشط يتكرر مع الأسف في مركز الحوار الوطني، الذي وبعد 20 حلقة حوار نطالبه اليوم بجرد ما أنتج وما قدم لا كأرقام وجلسات ولكن كمنجزات.. هل يدعي أنه نجح ولو بنسبة 20 في المئة؟ وهل صوت التطرف مثلاً الآن أقل؟ وهل اتسعت مساحات الحوار بين أطياف المجتمع وتقاربت؟ وهل تناقصت قوائم المطلوبين أمنياً وفكرياً؟ وهل غدونا أكثر قبولاً للآخر؟ والأسئلة كثيرة، ولا أظن أن الجواب بنعم، وبالتالي فهو أيضاً مطالب بتوضيح أسباب فشله، ونطالب نحن بغلقه توفيراً للهدر المالي وترشيد الإنفاق الذي تتبناه الدولة الآن. هذا التوق المفرط للأكاديمي للحضور في كل منشط كان على حساب المثقف الحقيقي.. المثقف الذي ربما لا يجيد كتابة الأوراق ولا يعرف كيف ينمقها، لكنه يكتب بصدق ويتحدث بصدق، وهاجسه هو الثقافة والوعي والحرية والمساواة، وليس مكتسبات آنية ولا دعوات ولا مشاركات خارجية.. مشاركة قزمت الحضور السعودي جداً، ولا يكاد يعرفنا الآخر لأنه لا يسمع ولا يرى ولا يلتقي ولا يحتك سوى بهؤلاء الأكاديميين، ومن يدور في فلكهم، ومن قال إن الثقافة أوراق وطروحات منمقة، الثقافة هم وقلق؟ مؤتمر للأدباء أم لسواهم؟ إعلان وزارة الثقافة يقول عن المؤتمر إنه مؤتمر الأدباء؟ فمن هو الأديب؟ وهل الأديب متخصص في تقديم بحوث محكمة أم أوراق بفذلكات وهوامش ونسق أكاديمي، أم المثقف بالمطلق هو عفوي؟ وهو إما شاعراً أو قاصاً أو رساماً أو مبدعاً في مجاله. والمبدع لا يكون مهووساً سوى بالإبداع وبالحرية وبقيم الخير والجمال، فهل هذا المؤتمر من أجله «مؤتمر الأدباء»؟ وهل الأكاديميون الذين يشرفون عليه والذين سيتبارون بأوراقهم فيه هم أدباء؟ أم للأدب والأدب تعريف مختلف يغيب عن شخصي الضعيف؟ كونوا عند وعدكم ودعوه للأدباء، وتجاوزوا عن شكل ما يقدمون لا مضمونه، ولا تضعوا في أفواههم كلمات، والأديب الحق لا يقبل وسيغيب وقد غاب عن هذه الملتقيات طويلاً، لأنه آمن أن لا صوت له ولا قبول، وأنه الحائط القصير على الدوام، وأن المقاعد الأمامية للمؤدلج الذي يرى في نفسه حارس الأمن الفكري وحده، بحسب فهمه وتعريفه، والمقاعد الأخرى للأكاديمي المنظّر المنتفع. وعلى الأديب إن أراد الحضور الجلوس هناك مستمعاً أو متداخلاً بشكل تجميلي لا أكثر، وما أظن أن هذا دور الأديب ولا مقامه، وليت الوزارة قالت مؤتمر المثقفين لربما شفعت هذه المفردة للكل بالانضواء تحتها، ولكن منذ متى كانت الوزارة حريصة على الثقافة الجادة والأدباء الجادين، الذين ينتظر مشاركتهم وأطروحاتهم في تأمين الأمن الفكري؟ ولهذا أكرر هنا ما قلته في مشروع ورقتي المرفوضة، أنه لا دور للثقافة في تأمين الفكر، لأنها مغيبة على الدوام، وأن الوقت وقت الجرد والحساب عماذا قدمت مثل هذه المناشط، ولماذا فشلت حتى الآن في تأصيل هذه المفردة؟ وأتمنى على مقام الوزارة الموقرة أن تقيم مناشط عفوية شعبية للمثقفين الحقيقيين يحضرون إليها من دون دعوات ومن دون تذاكر سفر وفنادق خمس نجوم ومصاريف نقدية، وأن تقام في مدن عدة لا مدينة واحدة، وأن يتحدث الأدباء ويقدمون أوراقهم أو حتى يتحدثون من دون أوراق، وأن يشاركوا بصدق في مسيرة هذا الوطن.. هذا الوطن الذي يتناوشه الأعداء الآن من كل جانب ليس بسبب طروحات المثقفين وأفكارهم، ولكن بسبب تغييب صوتهم وإرهابهم حتى احتموا بالصمت والغياب. ولتلغي أو تحجب الوزارة التذاكر والإقامات والمكافآت ثم تدعوهم، لنرى كم واحداً سيحضر، وكم ورقة ستقدم، وجربوا. * كاتب سعودي.