في شكل استعراضي أعلنت الولاياتالمتحدة سحب قواتها القتالية من العراق قبل الموعد المحدَّد نهاية شهر آب، «تنفيذاً للاتفاقية الأمنية» التي جرى توقيعها مع المالكي نهاية عهد بوش الابن، و «التزاماً» من جانب الرئيس الجديد أوباما. فهل يمكننا القول بأن الاحتلال الأميركي للعراق قد انتهى؟ وأن «حكومة وطنية» هي التي ستدير أمور البلد؟ الإعلام يحاول أن يرسّخ هذه الصورة، ويهدف إلى القول بأن زمن الاحتلال قد انتهى، وأن العراق بات مستقلاً، وبالتالي فإن كل ما سيجري هناك هو مسؤولية «أبنائه». وإذا تجاوزنا الآن أن هناك خمسين ألف جندي أميركي ما زالوا في قواعد محصنة في العراق، وهي القوات التي يقال بأنها ستغادر نهاية السنة المقبلة. لكن ما يكتب في الصحف الغربية، وما يقال من قبل بعض العسكريين الأميركيين والعراقيين، يُظهر بأن هناك من لا يصدّق كل ذلك، إلى حدّ السخرية من كل الأقوال التي تتردد حول الانسحاب النهائي، وحول الخوف من الانسحاب النهائي خشية ترك العراق «للذئاب» كما يتكرر نقلاً عن طارق عزيز الذي بات معتقلاً لدى «الحكومة العراقية»، وهذا من نتائج الانسحاب الأميركي. لهذا يمكن أن نقول بكل هدوء بأن القوات القتالية الأميركية قد انسحبت من العراق، لكن نطرح السؤال: هل انتهى الاحتلال؟ خلف كل هذه المظاهر التي تتخذ صدى إعلامياً من أجل أغراض أخرى، ربما التمويه وربما الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي، يمكن أن نتلمس بعض ما يفيد، حيث أن المسكوت عنه في العراق هو تلك القوة الضاربة للشركات الأمنية، مثل بلاك ووتر التي غيرت اسمها بعد الفضائح التي طاولتها، وبحسب التقديرات فإن حجم وجودها يصل إلى 150 ألفاً من القوات المدربة جيداً والتي لا تخضع لقانون وهي تمارس القتل، والتي تمتلك كل أصناف الأسلحة الضرورية ل «حفظ الأمن». وعلى رغم المطالبات بمنع نشاطها بعد الجرائم التي ارتكبتها فقد ظل وجودها ملحوظاً ومدعوماً من جانب القوات الأميركية. وكما لمسنا وضعها في أفغانستان، حيث رفضت الولاياتالمتحدة قرار «الرئيس» كارزاي بمنع نشاطها، واعتبرتها جزءاً من استراتيجيتها ل «مقاومة الإرهاب»، فهي كذلك في العراق. ولسوف تكون القوة الضاربة ليس لحماية الوجود الأميركي فقط، بل لترويع كل «القادة السياسيين»، وإرهاب الشعب العراقي، وحماية النفط. وإذا كانت تبدو كشركة خاصة سوف لا يخفى على أحد بأنها جزء من الاستراتيجية العسكرية الأميركية للسيطرة على العالم، وهي تقوم بكل المهمات القذرة التي لا يستطيع الجيش القيام بها، وبالتالي فهي كذلك قوة دفاع عن المصالح الأميركية في العالم. وهي تلعب هذا الدور في العراق ربما بنجاح كبير. إذن، إذا كانت مهمة الشركات الأمنية التي تحمي بعض المنشآت والأهداف الأميركية تقوم كذلك بعمليات قذرة، فلسوف تمارس إضافة إلى ذلك دور القوة الحامية للوجود الأميركي في العراق بعد «الانسحاب». في المقابل، بقي في العراق ما يقارب الخمسين ألف جندي موزعين في قواعد عسكرية محصنة ومجهزة بكل التكنولوجيات الحديثة، وإذا كان يقال بأنها ستنسحب من العراق نهاية العام المقبل وأن ما سيبقى هو القوات الضرورية للحماية والخبراء للتدريب، فإن هؤلاء الخمسين ألف جندي سيكونون هم قوات الحماية والتدريب، فقد كان واضحاً منذ البدء أن أميركا ستبقي في العراق هذا العدد من القوات لأنها لا تستطيع إبقاء أكثر من ذلك في ظل استراتيجيتها العسكرية التي قامت على نشر أعداد كبيرة من الجيش الأميركي في مختلف أصقاع العالم. وحيث كان لا بد من نقل ثقل الحرب إلى أفغانستان وباكستان، وإكمال التمدد في أفريقيا، وإرسال قوات إلى أميركا اللاتينية بعد الموجة اليسارية التي اجتاحت القارة. أميركا لا تستطيع أن تبقي أكثر من هذا الرقم في العراق، وأصلاً لم يكن الاحتلال الماضي بحاجة إلى أعداد أكبر من ذلك. فهدف القوات الموجودة في معسكرات هو امتلاك القدرة للإمساك بزمام السلطة، وتسخير الطاقم السياسي، والأجهزة الأمنية والقوات المحلية لضبط الوضع الأمني. ومن ثم التدخل عند الضرورة فقط. هذا هو شكل الاحتلال منذ وجد، وهو الشكل الذي يتوضح الآن في العراق. وسنلحظ كيف أن «التركيبة السياسية» التي نشأت على الأرضية الطائفية التي صنعها بريمر «الحاكم المدني» في الفترة الأولى من الاحتلال، هشة، وعاجزة عن الحكم من دون الدعم الأميركي، وخائفة من الانسحاب الأميركي أكثر من خوف طارق عزيز، حيث لا أظنها تعتقد أنها قادرة على الحكم في ظل انسحاب أميركي كامل. ولقد باتت عاجزة عن تشكيل الحكومة من دون فرض أميركي لصيغتها، التي ستنتج حكومة هزيلة ومفككة، وتضم نهّابي الأموال التي تبقى بعد أن تقتطع الشركات الأميركية الكتلة الأضخم منها. في ظل فوضى وقتل تمارسهما القوى الطائفية التي هي في الحكم أو خارجه، وتدعمها القوات الأميركية. إذن، هل انتهى الاحتلال؟ * كاتب سوري.