كنت أقرأ القرآن، ووصلت عند قوله تعالى –مطلع سورة الملك-: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور»، فاستوقفني سر التعبير بقوله: «أيكم أحسن عملاً»، ولِمَ لم يقل: أيكم أكثر عملاً؟، ولِمَ لم يقل أيكم يعمل؟ وهل مجرد العمل مقصود؟ أم كثرة العمل هي المقصودة؟ أم الأهم من ذلك كله الإتقان في العمل. عدت أتأمل في آيات أخر باحثاً عن هذا المعنى، أو قريب منه، فوجدت أن القرآن يدعونا إلى الإتقان من خلال هذا الوصف القرآني البديع: «الذي أحسن كل شيء خلقه»، والآية الأخرى: «صنع الله الذي أتقن كل شيء». فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالإتقان في كل شيء، ووصف نفسه بالإحسان في الخلق، أليست هذه صفة يجب على المسلم أن يقتدي بها؟ كما يدعونا القرآن إلى التفوق على أنفسنا وعلى الآخرين، واستمع إلى قوله: «يا يحيى خذ الكتاب بقوة»، وقوله: «واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم»، وقوله تعالى: «وأمرت لأن أكون أول المسلمين». وهي دعوة صريحة وواضحة إلى الجد والاجتهاد والبحث عن الأفضل دائماً، والبحث عن التميز حتى داخل صفوف المسلمين بأن تكون الأول بينهم. وحتى نصل إلى هذه المرحلة؛ لابدّ من التنافس الإيجابي: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»، والبيئة التنافسية تعد من أهم البيئات الحافزة على الإبداع والتفوق. ولم يكتف القرآن بأن نبحث عن التفوق والتميز، بل دعانا إلى اغتنام الوقت والفرصة والمكان والزمان في المبادرة في أعمال الخير: «فاستبقوا الخيرات»، بل جعل المبادرين في منزلة فضلى، فقال: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات». إن هذه الدعوات إلى التفوق والتميز تتسع في المساحة لتشمل أمور الدين والدنيا، فنحن مدعوون إلى ذلك في كل الأمور التي نقوم بها في عباداتنا او معاملاتنا أو شؤون دنيانا وأعمالنا الخاصة. هذا المفهوم القرآني وعاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أي الصدقة أعظم أجراً؟ وهذا أبوذر – رضي الله عنه – يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ وأي الرقاب أفضل؟ وثالث يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب كل إنسان بحسب حالته أو بحسب الزمان الذي يناسبه إلا أنه كان يجيبهم ويذكي روح الحماس فيهم، ويدلهم على ما هو خير دائماً. لم يكن يشغل بال الصحابة رضي الله عنهم العمل بوصفه مسألة مجردة، فهو أمرٌ قد فرغوا منه، بل كان الذي يهمهم إتقان العمل والتميز فيه والتنافس مع الآخرين من خلال البحث عن أفضل الأعمال، وتحري النافع والمفيد منها. ونتيجة لذلك؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا نسخاً متشابهة بل تفوق بعضهم في مجالات وبرزوا فيها. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينمي فيهم هذا الشعور، من خلال الثناء عليهم بما تميزوا به، واستمر المسلمون على هذا الحال من الإتقان في العمل والمسارعة فيه وفاقوا غيرهم حتى تخلوا عن هذه القيمة الرائعة. إن في كل منا جوانب تميز وإبداع فضلنا الله بها عن غيرنا، علينا اكتشافها وتطويرها، مع التفكير دائماً في اقتناص فرص الخير الدينية والدنيوية، وعدم الجمود على حال واحدة في زمان أو مكان. * أكاديمي عربي، مقيم في الرياض.