هل كان وزير خارجية اسبانيا ميغل انخيل موراتينوس مُحقاً حين وصف الوضع الذي كانت تجتازه العلاقة بين الرباط ومدريد انه لم يصل الى درجة الأزمة أم أنه تعمد التقليل من تداعيات سوء التفاهم للإفساح في المجال أمام مبادرة الانفراج؟ في أي حال فإن التعاطي والأزمة الناشئة من خلال جلسة عمل جمعت بين وزير داخلية إسبانيا الفريدو روبالكابا ونظيره المغربي الطيب الشرقاوي كان حلاً موفقاً. من جهة أبقي على الملف في إطار ما تصفه الرباط بقضية داخلية تطاول تعرض رعاياها الى تعنيف من طرف قوات الشرطة الإسبانية في المعابر الحدودية لمدينة مليلية المحتلة شمال البلاد. ومن جهة أخرى، حرر الإسبان من الإذعان للأمر الواقع، ودفعهم الى معاودة فتح ملفات سياسية وأمنية تشمل تداعيات الهجرة غير المشروعة والحرب على الإرهاب والتصدي للاتجار بالمخدرات، وإن كان الراجح انه يصعب الإلمام بمقاربة شمولية في مواجهة التحديات، من دون الانصراف الى البحث في مستقبل المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية. أقله انهما يغويان فلول المهاجرين المغاربة، باعتبارهما بوابتي الفضاء الأوروبي. بيد أن أزمة من هذا النوع، بخلفيات تتعلق بتصفية الاستعمار وإن لم يحن أوانه بعد، تركت الانطباع بأن اللجوء الى الحوار في إمكانه أن يشكل بداية الطريق، وليس مطلوباً أن يحسم في كل القضايا العالقة دفعة واحدة. فقد ظهر جلياً أن المطالبة باستعادة المدينتين المحتلتين انتقلت من القنوات الديبلوماسية المتعارف عليها، واستقرت على ضفاف ثورة هادئة يقودها المجتمع المدني عبر تنظيمات غير حكومية قلبت المعادلات التقليدية. بيد أن الانفراج الذي حقق أهدافاً قريبة المدى، على صعيد العودة بالعلاقات الى سابق عهدها قبل التوتر، ليس نهاية المطاف. فبالقدر الذي استقرت فيه المواقف على تغليب منطق الحوار والتفاهم، بالقدر الذي يتطلب ذلك جرأة حقيقية في التعاطي والملفات العالقة من دون تجزئتها الى فصول ومشاهد. ودلت التجارب على أن أكثر ما يثير حساسيات ومشاعر المغاربة في علاقتهم مع الإسبان، يبدأ من نقطة واحدة تتعلق بالوضع غير الطبيعي للمدينتين المحتلتين سبتة ومليلية. وكان يكفي أن يحظر نشطاء مغاربة عبور الشاحنات المزودة بالخضر والفواكه لتعيش المنطقة حرماناً حقيقياً في المواد الاستهلاكية. وقد يتطور الأمر لاحقاً الى منع التزود بالماء في حال استمرت الضغوط. وأدرك الإسبان أن المدينتين لا مستقبل لهما خارج التعايش في محيطهما الطبيعي. وتفيد تقارير ميدانية أن التركيبة السكانية بدورها في طريقها الى تغير جذري، بالنظر الى أن أبناء المستوطنين الإسبان باتوا يسرحون ببصرهم بعيداً عن المدن الإسبانية، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية التي تسببت في انهيار الأوضاع الاقتصادية في إسبانيا. ليس هذا فقط. فقبل الأزمة الأخيرة طرحت السلطات المحلية في المدينتين فكرة إلغاء نظام التأشيرة لتشجيع الزوار المغاربة على التسوق من المدينتين، مركز التجارة الحرة. فيما ينظر الإسبان بقلق ودهشة الى المشروعات الكبرى التي ينفذها المغرب في المناطق الشمالية، والتي من شأنها أن تقلل من الدور الاقتصادي والتجاري للمدينتين. النيات الطيبة وحدها لا تصنع السياسة. وإذا كان التشدد المغربي في مواجهة ما وصفته بيانات الخارجية بالانزلاق نحو تصرفات عنصرية فتح كتاب المدينتين بقوة الواقع، فإن بعض مظاهر عودة الوعي لأطراف إسبانية أبدت عدم ارتياحها الى سياسة التصعيد ضد المغرب. يعكس بداية تحول في التعاطي شبه الخجول مع ملف المدينتين. ولعل الرسالة التي أرادت تلك الأطراف إبلاغها الى الرباط، تكمن في رفض الاستخدام السياسي لورقة المغرب في الاستحقاقات الانتخابية الإسبانية. بيد أن الوصول الى اتفاق مع الرباط لتجاوز الخلافات العارضة، لا يعني بالضرورة أن المسألة انتهت عند هذا الحد. ولا يبدو أن ما لم يستطع الحزب الاشتراكي تحقيقه، وهو يدير مقاليد الحكم، سيكون في إمكانه إنجازه في حال انتقل الى المعارضة. فالمشكلة أولاً وأخيراً إسبانية المنشأ والطموح، وأقصى ما يستطيعه المغرب ألا يكون طرفاً في معادلات الصراع الإسباني - الإسباني.