كنت ألوك في تكاسلٍ قطعة لبانٍ عتيقة الطراز، وأنا أرمق عشرات الحضور من موظفي شركتي أثناء استقبالهم لسعادة رئيس مجلس الإدارة، بابتسامته العريضة، وصلعته الصفراء، ودبلوماسيته الإدارية. ابتدأت حفلة الاستقبال بكلماتٍ ترحيبية تلاشت في قعر مستنقعٍ ضبابيٍ لمجمل أسئلةٍ طافت داخل عقلي الكليل وأنا ألوك تلك اللبانة المطاطية الثقيلة على الضروس والقواطع العاجية: لماذا وصف سعادة مدير شؤون الموظفين بالشركة زيارة رئيس مجلس الإدارة بالتاريخية!!؟ التاريخية!! يا لهذا الوصف البليغ الغارق في المبالغة!! تاريخية!! ما معنى كلمة تاريخية؟ يعني سيذكرها التاريخ!؟ في أي بابٍ يا ترى!؟ باب الزيارات أم الإنجازات أم تفقد الأوضاع!؟ ثم هل يملك تاريخ الشركة خياراً أو بطاطاً حتى! إلا أن يذكر هذه الزيارة التاريخية، كما سيذكر زيارة وفود طلاب المدارس الابتدائية لمقر شركتنا مثلاً؟ التاريخ لا يجيد التفرقة بين العناصر البشرية، إداريين أم رؤساء مجالس إدارات أم موظفين، وهو لا يصنع نفسه بنفسه، نحن نكتب التاريخ ونصنعه، والأجيال تقرأ صياغتنا للخبر التاريخي لتثني على حنكتنا في جمال الصياغة، أو لتضحك من سوء تعبيرنا! لم تكن زيارة رئيس مجلس الإدارة تاريخية، ولا جغرافيّةً حتى، بل كانت زيارة تفقد مصالح شخصيةٍ لأهداف مشروعةٍ من مراقبة سير العمل، وعدم تعثر المشاريع . ما الذي ستحققه هذه الزيارة أو حققته لي ولغيري من عشاق التأمل والرؤية!؟ أقصد من الأجناس البشرية الذين يعانون من كثرة التفكير وطرح الأسئلة؟ هذه الزيارة لم ولن تحقق لي شيئاً على الصعيد الشخصي، جاء رئيس مجلس الإدارة، دخل الشركة، تفرج قليلاً، ألقى كلمةً مقتضبة، نصح، حذر، وجه، أمر، ثم خرج، قال مديرنا: زيارة تاريخية، ألقى خطاباً تاريخياً!! ليش إن شاء الله، خطاباً تاريخياً!! زيارة تاريخية طيب مشيناها، خطاباً تاريخياً على أي أساسٍ!؟ رحل رئيس مجلس الإدارة، وستبدأ زيارة تاريخية أخرى في الغد القريب لأعضاء مجلس الإدارة، وتدور عقارب الزمن، وهذه المرة لن أزدرد قطعة لبانٍ أزرق اللون ولا أخضر حتى، بل سأشرب كوباً من الماء، أو جاماً من العصير، لأبتلع اللبانة بالورقة، ومعهما غصتي كموظفٍ أسقطه التاريخ عمداً من أحد فصوله المأسوية، وختم مصيره بلفت نظرٍ مذيل بتوقيع سعادة مدير عام شؤون الموظفين، لانشغال فمي بمضغ اللبانة المشؤومة أثناء مراسم التكريم!