يبرز قرار خفض أجور الوزراء بواقع الخمس عزم السعودية على أن يشارك كبار المسؤولين بالدولة في تحمل أعباء التقشف، في مسعى لحث المواطنين على التسامح مع ما قد يسببه ذلك من تراجع مستويات المعيشة في عصر النفط الرخيص. وتأتي القرارات، التي ستسري على المواطنين والوافدين العاملين في القطاع العام من مطلع تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، قبيل إصدار كبير لسندات سيادية، في علامة على أن المملكة ملتزمة بضبط المالية العامة. ويقول الاقتصادي فضل البوعينين: «اللافت في القرارات الأخيرة تركيزها على ذوي الأجور المرتفعة من الوزراء وأعضاء مجلس الشورى، إذ طاولهم خفض الرواتب والمزايا للمرة الأولى، وعلى العكس من ذلك، نجد أن مراجعة الرواتب والأجور لعموم الموظفين ارتبط بوقف بدل النقل في الإجازات ووقف العلاوات. تضفي الإجراءات طابعاً رسمياً على قرارات خفض النفقات، التي تبنتها الدولة منذ العام الماضي». وتشير ردود الفعل الأولية إلى استعداد للتكيف مع الظروف الصعبة التي يفرضها هبوط أسعار النفط على اقتصاد أكبر بلد مصدر للخام في العالم. ويوضح أبوخالد، وهو شرطي سعودي يبلغ من العمر 37 عاماً ولديه ثلاثة أبناء، أنه يتوقع انخفاض دخله إلى ستة آلاف ريال (1590 دولاراً) من سبعة آلاف قبل صدور القرارات. ويضيف: «يجب أن نقف مع الوطن في الظروف العصيبة، وأن نرضى بالنصيب، سنحاول تكييف أوضاعنا بحسب الراتب الأساسي، وسنضطر إلى خفض بعض المصروفات، أنا متفائل بأن الأمور ستتحسن مرة أخرى». وتضررت إيرادات السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، جراء هبوط أسعار الخام أكثر من النصف منذ 2014 إلى ما دون 50 دولاراً للبرميل. وسجلت المملكة عجزاً في الموازنة بلغ مستوى قياسياً عند 98 بليون دولار العام الماضي. وحتى قبل هبوط أسعار النفط في 2014 كان الاقتصاديون يقولون: إن السياسية المالية والهيكل الاقتصادي للبلاد لا يتمتعان بالاستدامة، لكن هبوط إيرادات النفط جعل تبنّي الحكومة عدداً من الإصلاحات ضرورة ملحة من أجل دعم نشاط القطاع الخاص وتوفير الوظائف للمواطنين. ودأب المسؤولون على التحذير من عدم إمكان الاستمرار في غياب الضرائب وكبر حجم القطاع العام ودعم الدولة أسعار الوقود والطاقة، لكن مع ذلك ظل المواطنون يتعاملون مع تلك الأمور على أنها حق مكتسب في ظل الإنتاج الوفير من النفط السعودي. ويشير اقتصاديون إلى أن خفض رواتب الوزراء ومن في مرتبتهم قد لا يحقق وفراً كبيراً في حد ذاته، لكنه يهدف بصورة واضحة إلى درء الغضب الشعبي عبر استهداف من هم في قمة الهرم الاجتماعي. ولم يطرأ تغير يذكر على أسواق العملات وعقود التأمين على الديون وأسواق الدين العالمية جراء القرارات. لكن الانطباع الأولي لأسواق الأسهم الإقليمية كان سلبياً، مع توقع المتعاملين أن يؤدي هذا الخفض إلى تراجع إنفاق المستهلكين. ويرى مختصون أن خفض المزايا والعلاوات، التي يقدر أنها تشكل نحو 30 في المئة من دخل المواطنين العاملين بالقطاع الحكومي، سيكون له أثر إيجابي في الحد من التلاعب في هذه الصلاحيات. ويوضح رئيس الأبحاث لدى الاستثمار (كابيتال) مازن السديري: «بعض البدلات والعلاوات كانت تفتح الباب للفساد وتتسبب في كثير من الهدر.. القرارات تهدف إلى ترشيد الإنفاق وإعادة كفاءته لكن من الضروري دعم نمو القطاع الخاص وخلق المزيد من الوظائف». ويقول فهد (27 عاماً)، الذي يعمل في مؤسسة البريد السعودي: إن إجمالي ما يتقاضاه شهرياً سينخفض إلى 4800 ريال من ستة آلاف ريال، بعد القرارات الجديدة، مضيفاً: «معظم زملائي غاضبون، لكني أرى أن هذه الإجراءات أمر طبيعي في مثل هذه الظروف». وفي موقع «تويتر» انتشر وسم «كلنا اليوم عيال الملك سلمان» وحمل أكثر من 50 ألف تغريدة مؤيدة للقرارات التي صدرت أول من أمس (الإثنين)، وجميعها حملت بين طياتها ضرورة الالتزام بمبدأ «السمع والطاعة» لولي الأمر. وذكرت تغريدة من حساب عبدالعزيز العسكر، وهو مستشار شرعي واجتماعي: «بايع آباؤنا وأجدادنا ملوك هذه الدولة على كتاب الله وسنة رسوله وعلى السمع والطاعة، وليس على البدلات والعلاوات»! وبيّن نواف العتيبي (42 عاماً)، ويعمل بالقوات الجوية، أن خفض البدلات والعلاوات سيخفف الضغوط الاقتصادية طويلة الأجل، وسيساعد في تحقيق مزيد من الإصلاحات. ويضيف: «تمثل هذه البدلات نحو 20 إلى 30 في المئة من دخلي، ولهذا سأضطر إلى خفض النفقات، وربما تتأجل بعض الخطط المستقبلية، لكن في شكل رئيس سأخفض بعض النفقات اليومية على الأسرة والأبناء وأشياء من هذا القبيل». من وجهة النظر الدولية، ينظر الاقتصاديون إلى القرارات على أنها محاولة لتوصيل رسالة مفادها أن الحكومة جادة في معالجة عجز الموازنة. ويؤكد رئيس قسم أبحاث ائتمان الشركات بالأسواق الناشئة، لدى كومرتس بنك أبوستولوس بانتيس، أن خفض الرواتب والمزايا «محاولة لإرسال إشارة إلى المستثمرين بأن الحكومة جادة في شأن الإصلاحات، وأنها على استعداد للتعامل مع الأمور ذات الحساسية السياسية»، مشيراً إلى أن الحكومة تحاول أن تبعث إشارة إلى المواطنين بأن عليهم ربط الأحزمة، وأن هذا الإجراء سيبدأ من القمة. من ناحيتها، قالت كبيرة الخبراء الاقتصاديين لدى بنك أبوظبي التجاري مونيكا مالك: إن من المقدر أن تحقق هذه الإجراءات وفراً أقل من 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لكنها أضافت: «أعتقد أن الرسالة أقوى من ذلك، وأنه لا شيء خارج حدود الإصلاحات المالية المحتملة، وأن هناك عزماً متواصلاً على خفض عجز الموازنة» مشيرة إلى أن ذلك يأتي في صورة خاصة قبل الإصدار المرتقب لسندات دولية ستصدرها المملكة. ومن المتوقع إعلان إصدار السندات السيادية السعودية في تشرين الأول (أكتوبر)، ويقدّر مصرفيون أن تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار على الأقل. وقدرت شركة الأهلي المالية، في تقرير، أن العلاوات شكلت نحو ربع إجمالي فاتورة الرواتب الحكومية العام الماضي، والتي شكلت بدورها نحو 38 في المئة من إجمالي الموازنة البالغة حوالى 260 بليون دولار. لكن لم يتضح إلى أي مدى ستساعد الإجراءات الجديدة في خفض الإنفاق الحكومي على العلاوات، التي يقول السعوديون إنها كثيرة ومتنوعة.