أخرج ظهراً في شهر رمضان، والدنيا أشد حرارة من الفرن! والهواء مات منذ عشرة قرونٍ، والشمس ليست في السماء، ولكن السماء كلها شمس وكلها محرقة، لا طير يرف في الفضاء، لأن أي طيرٍ يقل عقله ويطير ولو على ارتفاع قدمٍ فإنه سيهوي مشوياً على الأرض، كل هذا وأكثر فمكيف المركبة عطلان، والسيارة من الداخل كالمهل يشوي الوجوه! أجبرت على الخروج كي أحضر للمدام خلطة لقيمات القاضي، وزجاجة توت مركزٍ، وأخيراً وليس آخراً عجينة السمبوسة ! إذ لا يستقيم حال إفطارنا في العادة، إلا بهذه المقومات الأساسية لفض الصيام. الدنيا حر، والأخلاق سياحية، والأسعار شبه مرتفعة كارتفاع الحرارة، تقاربُها أو تزيد، وهنا تكمن معضلة الصبر وتحمل المشاق في شهر الصوم. لقيني متسول عند محال التسوق فدعا لي ماداً يديه، ولما جدت عليه بما تيسر لم يقتنع وألقى عليّ كلمةً ساخنةً من قبيل، ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه! ولما أنكرت عليه بأن استشهاده في غير الموضع قال: «أنا محتاج وقد تحمّل حمالةً». فقلت له: هذا ما عندي. أجابني إن في رصيدك أكثر! فتشاغلت تحت أشعة الشمس المحرقة عن إحضار أغراض المنزل بالمجادلة والملاحاة مع هذا الفضولي، ووقع في نفسي فكرة تصنيف كتابٍ عن آداب التسول، على غرار آداب الحديث والنوم والطعام، لكنني فكرت بيني وبين نفسي بأنني سأخسر من الكتاب ولن أكسب، إذ يجب عليّ طبعه ونشره وتوزيعه على نفقتي الخاصة من دون انتظار تحصيل ريعٍ أو نصيبٍ منه، فالمعنيون به شريحة من المتسولين الذين غزوا البر والبحر والجو. متفننون في الطلب ومد اليد والجدل ورفع الصوت واستدرار العواطف وإفساد الأجواء الروحانية على المصلين، وقصر النفقة على عصابةٍ ليست بحاجةٍ إلى روح الزكاة ولب الصدقة، قدر حاجتها لزيادة مصدر الدخل واستنزاف الموارد . تركت المراء مع المتسول ودخلت السوق أتبضع، ولما خرجت تداعت يدي بفعل الجوع والعطش وشدة الحر والعجلة، فسقطت زجاجة التوت وتحطمت وسال دمها أحمرَ قانياً على الرصيف! لم أخفِ نظرات الشماتة من المتسول الفضولي، كدت أفسد صيامي لولا استعاذتي من شر الشيطان الرجيم، ركبت السيارة وعدت إلى المسكن لتسكب في أذني زوجتي الحنون مواعظ أخرى عن وجوب توخي الحيطة وأخذ الحذر.... وواللهم إني صائم بس!