تتداعى في ذاكرة أبناء الحجاز (مكةوجدة والمدينة المنورة)، ذكريات تتجلى بصور الماضي، وتحن في مثل هذه الأيام التي تشهد فيها بلادنا وفود حجاج بيت الله الحرام. ففي الحج في أيامه المعدودات تتجلى صور ومشاهد يصعب نسيانها. خصوصاً وأن المجتمع الحجازي تأقلم مع تلك الطقوس التي تؤدى في خدمة ضيوف الرحمن، وبوجه خاص في حارات مكة والمدينة التي تحيط بالحرمين الشريفين إحاطة السوار بالمعصم، كان كل باب من أبواب الحرمين يسمى بالمكان أو نسك من مناسك العبادة. أذكر أنه كانت لبيتنا القديم تفاصيل ما زالت عالقة في ذاكرتي لا تختلف عن النسيج الاجتماعي القائم في ذلك الوقت، والطراز العمراني الحجازي له طابعه وتصاميمه الخاصة التي عرف بها، أتذكر طفولتي وتتجلى كل تفاصيل ذلك المناخ الروحاني، في بيتنا الذي كان في حمى المسجد الحرام، ملاصق لباب من أبوابه. (باب الدريبة) ممر ضيق يصل بين الحرم وسوق السويقة. في بيتنا كنا نشعر أننا ضمن أروقة الحرم، إذ تصل صفوف المصلين أيام الجمعة إلى (الدهليز) وفي موسم الحج تتعاداه لسوق السويقة. في أيام الحج كنا كبقية الأسر المكية التي سخرها الله لضيافة ورعاية وخدمة ضيوف بيته العتيق، تبدأ بالاستعداد لموسم الحج، بعد الانتهاء من أيام عيد الفطر، فتستعد البيوت القريبة من الحرم للإعداد لاستقبال الحجاج، في روحانية تتجلى في ذاكرتي كمشاهد لا تنسى، في أرض لا يجد أي إنسان مؤمن روح الجلال والجمال إلا في رحابها وبطاحها. وهذا ما يصدق فيه قول الشاعر المكي طاهر زمخشري رحمه الله: تفتق بين راحتيها الصباح/ وشَعْشَع في شفتيها القمر/ وأزهت بها الشمس فوق البطاح/ وجَنْ بها الليل حلو الصور». تعيش مكة خلال فترة موسم الحج أياماً مختلفة، يتغير فيها نمط الحياة، وما اعتاد عليه المكيون في أيامهم طوال السنة، إذ تبدأ إذاعة مكة ببث ابتهالات التلبية وأناشيد الحج، بدءاً من منتصف شهر ذي القعدة، وتنشأ بين أهل الحجاز وبين الحجاج الذين يسكنون بيوتهم، ألفة ومحبة يعيشون في أيام الحج كأسرة واحدة يشاركوهم الأكل والشراب والفرح والحزن ويتبادلون أنبل المشاعر.