السياحة بألف خير في لبنان وكذلك هي حال التسوّل. ليس من المفترض ان تكون هناك علاقة عضوية بين عالمي الانشراح والاستجداء، لكن في شوارع بيروت، ترصد دوماً ما قد يشعرك بأن جيش المتسوّلين ينتظر قدوم فصل الصيف لرفع نصيبه من الأرباح. هي «الشلّة» نفسها، تختلف الوجوه أحياناً، تختفي السحنات السمر لتحلّ محلها وجوه أكثر اسوداداً، أو بيض لم تلفحها أشعة الشمس بعد. لا يهم أنقص العدد أم زاد. «الشلّة» متمرّسة في فنون التسوّل، على رأسها «زعيم» يوزّع الأدوار. ولا يبقى على الأطفال سوى التنفيذ. تخترق صفوف السيارات العالقة في «خرم» عجقة السير، وكلما تكدّست الطوابير، وجد أولاد الشوارع الطريق أسهل الى جيوب زبائن «الأمر الواقع». فقط في موسم الحرّ والاصطياف، تتغيّر قواعد اللعبة. جحافل المتسولين لا تكتفي بمناطق عملها المعتادة، بل تجتاح تقاطعات الطرق الرئيسة والفرعية، وتمدّد ساعات العمل، وأحياناً كثيرة يوصلون النهار بالليل. والأهم أن الإقبال على الصنف المحليّ يتراجع لمصلحة الصنف الأجنبيّ. فعيون المتسوّلين ترصد بدقّة لوحات السيارات، متجهة كالسهم نحو المركبات التي تحمل لوحات غير لبنانية والقادمة بمعظمها من دول الخليج. وإذا كان الاستسلام وارداً أمام «تكشيرة» سيدة لبنانية غاضبة، أغلقت على عجل زجاج سيارتها تفادياً لسماع ترنيمة التسوّل الصباحية، أو موظف يصارع الوقت للوصول الى عمله بتأخير الحد الأدنى، فإن الأمر غير وارد مع سائقي السيارات «السائحة» في شوارع بيروت. ولأن الحياة منبع الخبرات، لا يتراجع أصحاب السحنات السمر أمام أي حاجز يعترضهم، لأن جيب الزبون الجالس أمامهم داخل سيارته الفاخرة «مكتنز». ثقتهم المطلقة بأنفسهم تدفعهم الى اختصار المسافات والتوجه مباشرة نحو الهدف. هنا لا يعود للعملة المحلية مكانها في سوق الشحاذة (التسوّل) «الله يخلّيلك هالحلوة... دولار واحد. الله يحمي عائلتك، شو معك اعطيني». الاحتراف المهني يصل الى حدّ امتناع المتسوّلين عن الردّ على أي سؤال يقع في خانة الاستفسار عن حياتهم الشخصية وأسباب انتشارهم في الشوارع وأماكن مبيتهم أو هوية المسؤول عن تشغيلهم واستنزاف طاقاتهم الطريّة. الزجاج العازل بين صوت المتسوّل وصوت المتحدث على الهاتف داخل السيارة المكيّفة لا يقطع حبل المفاوضات. لكن الانتقال الى الخطة «ب» (البديلة) يصبح ضرورياً. يرتمي الطفل على الجهة الأمامية للسيارة ذات الدفع الرباعي، محاوِلاً نزع المسّاحات لتنظيف زجاجها، ويطلق ضحكة من القلب لمجرّد ان السيارة تنطلق مجدداً مع حمولة زائدة قوامها بضعة كيلوغرامات من جسده النحيل، وكلّما أسرعت السيارة التصق بها خوفاً من خسارة صيده الثمين. «الكباش» (المنازلة) الحيّ ينتهي في أغلب الأحيان برابح وخاسر. الرابح ينجح في النهاية بدفع السائق الى إنزال زجاجه بضعة سنتيمرات وإخراج خمسة أو عشرة دولارات منها... ومع تسلّل خيوط أشعة الشمس الأولى، يجد هؤلاء الصغار مكانهم في المواقع الأكثر اكتظاظاً بالمارّة والسيارات، ومفترقات الطرق وفي أمكنة اللهو والسهر. وصغر سنّهم لا يمنعهم من إتقان قواعد اللعبة: يتردّدون في استجداء المال من سائقي سيارات أكل الدهر عليها وشرب. يدركون في قرارة أنفسهم ان هؤلاء تحديداً يعانون من ضيقة قد تدفعهم الى التصرّف بعدائية تجاههم. وغالباً ما يسمعون منهم عبارات من نوع «اذهبوا الى المدارس وتعلّموا... حينها تجنون المال بشرف وليس بالتسوّل». وفي المقابل، «يستقتلون» في إغراء أصحاب السيارات الفخمة وحتى العادية، لملء جيوبهم بغلّة ترضي زعيم فريق التسوّل. العين المجرّدة غالباً ما ترصد «المعلّم» ينقل في سيارته «البضاعة البشرية» ويوزّعها في الأمكنة المحددة، ثم يعود لينقلهم الى المقر العام. وما ترويه الجدران المغلقة يفضح ما يحجب عن العين. الغلّة تذهب الى «المعلّم» من دون أي نقاش... فضيحة الموسم السياحي، وكلّ موسم سياحي عموماً، هي ان مشهد «اصطياد الطريدة» يتمّ تحت أعين رجال الشرطة، في غياب أي رادع قانوني ل «سياحة» أطفال الشوارع على الطرقات، علماً ان التشريعات تعتبر التسوّل جريمة تستلزم العقاب. أحياناً، يتجنّد بعض القوى الأمنية لتأمين الحماية لبعض الملاهي التي ترتادها النخبة في لبنان، بينما يمرّ مشهد بيع الورود للساهرين أو عقود الياسمين من جانب أطفال لا يتعدون العاشرة من عمرهم، مرور الكرام. والواضح ان التساهل من جانب الدولة مع هذه الظاهرة أدى الى تنامي أعداد المتسولين في السنوات الماضية في شكل دفع منظمات حقوق الانسان الى التحذير من مغبة المتاجرة بهؤلاء الأطفال، ما يمكن ان يؤدي الى نشوء جيل يستسهل الجريمة والسرقات من دون رادع، أو الوقوع فريسة للمخدرات والدعارة. يشار إلى ان قانون العقوبات اللبناني يجرّم كلّ من دفع قاصراً دون الثامنة عشرة الى التسوّل، بالسجن من ستة أشهر الى سنتين. أما هذه الفئة من القاصرين فيطبّق عليها قانون حماية الأحداث، إلا ان المادة الثالثة من هذا القانون تنص على عدم ملاحقة من لم يتم السابعة من عمره، ما يبقي هؤلاء خارج إطار الملاحقة الجزائية ويؤدي بالتالي الى استمرار استغلالهم من دون رادع.