مساء الاثنين الفائت 18/1/2016 نزلت صاعقة سياسية على ساحة معركة رئاسة الجمهورية اللبنانية: قطبان مارونيان متحاربان في ماضٍ لم ينته بعد، يتلاقيان في مفاجأة كانت محتملة لكن لم تكن في مستوى الذي حدث. لقد بايع الخصم العنيد، الدكتور سمير جعجع رئيس حزب «القوات اللبنانية»، خصمه اللدود العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. السؤال الذي طُرح فوراً كان: ماذا كان الثمن ومقابل ماذا للدكتور سمير جعجع خصم كل حلفاء العماد عون وأولهم «حزب الله»؟ والسؤال الثاني كان: أي جمهورية لبنانية في هذه السنة التي يبدو أنها ستكون سنة الانقلابات الإقليمية والدولية؟ لكن، ما يدعو إلى بعض الاطمئنان هو أن الوضع اللبناني الداخلي سيبقى مضبوطاً، وهذا هو الأهم بالنسبة الى اللبنانيين. الأزمة اللبنانية الراهنة تخطت حدود رئاسة الجمهورية، وثمة تخوّف من أن تستمر زمناً أطول فتصبح أزمة نظام. وقد بات اللبنانيون في هذه المرحلة أشد ما يكونون في حاجة إلى الشجاعة للتخلي عن ادعاء الحرية والديموقراطية. ولا يعني ذلك التخلي عن هاتين القيمتين الحضاريتين اللتين، من دونهما، لا سبب ولا مبرّر لوجود كيان لبنان. إنما يعني أن اللبنانيين فقدوا منذ زمن طويل القدرة على ممارسة الديموقراطية والحرية، سواء على الصعيد النيابي أو على المستوى الشعبي. وقد بات الوضع يتطلّب أولاً استعادة الدولة التي تستطيع استعادة الدستور والقوانين والأحكام ودورة الحياة العامة، أي رئاسة الجمهورية. أحد حكماء السياسة اللبنانيين، وقد باتوا قلائل، يشبّه نظام الكيان اللبناني ببناء تراثي قديم. في الخارج ترمز واجهته للأصالة والعراقة، أما في الداخل فإنه يتآكل ويتداعى على فراغ تملأه النفايات. هذا الوصف المختصر للوضع اللبناني الراهن، على ما فيه من حقائق قاسية ووقائع وتناقضات، كانت قد رفضته جماهير الحراك الشعبي التي ملأت ساحات بيروت وشوارعها قبل بضعة أسابيع، وحين وقفت طلائعه أمام السرايا رفعت شعاراتها المكتوبة على اللافتات وأطلقت أصواتها العالية فملأت الدواوين والدوائر الخالية من شاغليها الوزراء، كما مجلس النواب المغلق على فراغ وسكون، فيما رجال الأمن تتقدمهم فرقة «مكافحة الشغب» في الجهة المقابلة تقوم بواجبها. ذلك المشهد الذي لم يمر عليه الزمن بعد، كان قد مثّل انتفاضة لبنانية شعبية مدنية مسالمة تحاكي «الربيع العربي» الذي تحولت رياحه عواصف وبراكين مدمرة جعلت مدن التاريخ هياكل تتداعى على شعوب لم تعد تملك سوى خيار الفرار حيث تيسر لها، فيما الديكتاتور محصن في قلعته. لم يفت الوقت بعد لاستعادة الحراك الشعبي اللبناني مبادرته، لكن بتنظيم جديد، ومسيرة جديدة، لا تتسرّب إليها عناصر الفوضى والتخريب خدمة لمن يوجهها. لكن ذلك الحراك، في جولاته المنضبطة الناجحة، ترك خلفه شعارات وصيحات من العيار الثقيل، ومنها: «دولة فاسدة. ساقطة، فاقدة ثقة الشعب. خائنة حقوقه وقضاياه». ولم يسلم النواب بكامل عددهم من أوصاف ونعوت لم يسمعوا ولم يقرأوا مثلها من قبل، ثم تراكمت النفايات فحجبت كل ما قبلها وما بعدها. وأكثر من ذلك: فُتحت وثائق وفضائح بالأرقام والتواريخ والأسماء، وعُرضت تفاصيلها على وسائل الإعلام اللبناني، والعربي، والعالمي. ولم يعترض أحد، ولم ينف أحد. كأنما المكشوف والمعروض يعود إلى شعب آخر، في بلاد أخرى. ثمّة بقية من جيل لبناني وُلد في الربع الثاني من القرن العشرين، فيها وزراء ونواب سابقون وقضاة ومحامون وإعلاميون. هؤلاء يتذكرون بعضاً من أمثولات في الوطنية والنزاهة والشجاعة تركها رهط من رجال الاستقلال في المجالين: السياسي والعسكري. أحدهم يتذكر ليلة استقالة الشيخ بشارة الخوري نزولاً عند إرادة اللبنانيين حين نفذوا إضراباً شاملاً دام ثلاثة أيام بانضباط تام من 15 إلى 18 أيلول (سبتمبر) 1952. تلك الليلة استدعى الرئيس الخوري قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب وطلب منه تشكيل حكومة مصغرة لإدارة شؤون البلاد ريثما ينتخب مجلس النواب رئيساً جديداً، كما طلب منه أن يقبل ترشيحه لرئاسة الجمهورية. في البدء اعتذر اللواء شهاب عن عدم قبول الطلب، وشرح أسبابه، وأولها أنه لا يريد أن يشكّل سابقة فيفتح «شهية» الضباط الموارنة للرئاسة، فيدخل لبنان في دوامة الانقلابات العسكرية العربية. لكن الجنرال شهاب الذي عاد وقبل ترؤس حكومة مصغرّة لملء الفراغ الرئاسي، ولمدة خمسة أيام فقط، عاد وقبل الرئاسة مرغماً في العام 1958 بتزكية من الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس الأميركي الجنرال دوايت آيزنهاور والرئيس الفرنسي شارل ديغول. جنرالان من الغرب الديموقراطي. وبكباشي من الشرق بايعته الأمة العربية، وجنرال من لبنان، أربعة قادة عسكريين حققوا لدولهم حقبة ازدهار واستقرار. مرة أخرى واجه فؤاد شهاب حملة نيابية شعبية واسعة لإقناعه بتجديد ولايته التي انتهت في 23 أيلول 1964. فقد توجه مجلس النواب بأكثريته الساحقة إلى منزل شهاب في جونيه لإقناعه بتجديد رئاسته، لكنه اعتذر منعاً لفتح باب التجديد أمام الرؤساء الموارنة من بعده. إلا أن أمثولته تلك ذهبت مع الريح. ذلك الرئيس الإصلاحي الاستثنائي كانت له رؤية مدنية للنظام اللبناني لم تُذكر من قبل، وقد قالها ببساطة لكمال جنبلاط في لقاء بينهما تناولا خلاله العقد التي تحول دون تطوير النظام اللبناني ليتساوى، أو ليتشابه، مع الأنظمة البرلمانية الديموقراطية في الغرب. كان الرجلان قد توقفا أمام مسألة حصرية رئاسة الجمهورية للطائفة المارونية، كما رئاسة مجلس النواب حصرية للطائفة الشيعية، ورئاسة الحكومة حصرية للطائفة السنية. وعلى قاعدة هذا التنظيم الرئاسي الثلاثي غير المنصوص عليه في دستور ما قبل الطائف هناك أيضاً تنظيم وزاري لا يسمح بإسناد وزارات «سيادية» من مستوى الخارجية والمالية إلى وزراء من طوائف قليلة العدد نسبياً. وفي سياق رفع الكلفة في ذلك اللقاء بين فؤاد شهاب وكمال جنبلاط (وكان شهاب قد صار رئيساً سابقاً) قال لجنبلاط وهو يبتسم: تصور يا كمال بك كيف لا يحق لك أن تُنتخب رئيساً للجمهورية في حين يحق لسائق سيارتي أن يكون رئيساً إذا أجمعت عليه أكثرية نيابية بفارق صوت واحد. ثم أردف الرئيس شهاب مستدركاً: لا تنسَ أن جدّي هو الأمير حسن شهاب. لم يعلق كمال جنبلاط بأي كلمة. كان الرئيس شهاب قد كفاه وأعفاه من التعليق. ثم أن فؤاد شهاب كان مسيحياً مارونياً مؤمناً، وكان في حديقة منزله في جونيه، ولا يزال، مزار للسيدة العذراء. كان ذلك في زمن كانت الجمهورية محترمة، وكانت الدولة مُهابة، قياساً بما هي عليه اليوم. لم يبق من دولة ذلك الزمن على علاتها سوى رجل الأمن في الشارع، والجندي المرابط على الحدود، والموظف المدفوع بالواجب الذاتي، الذي يقبض راتبه بالحلال، ولا يسأل كيف لمئة وثمانية وعشرين نائباً أن يقبضوا مرتباتهم وتعويضاتهم، وهم منذ سنة ونصف السنة مضربون عن القيام بواجبهم التمثيلي، ولا من يسأل أحدهم إن كان على علم بأن في نظام مجلس النواب مادة تنصّ على أحكام واضحة تقع على النائب الذي يتغيب عن الحضور ثلاث جلسات بغير عذر شرعي. وأي عذر لمن يتخلّف عمداً وتكراراً عن واجب انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ لقد باتت الجمهورية اللبنانية في حالة خطر. هي في غرفة العناية الفائقة، ولا طبيب، ولا دواء لها عند أهلها، وببساطة يردّد أقطاب ونواب ومراجع سياسية ودينية، وبعضهم يصرح: القرار ليس عندنا. إنه هناك في واشنطن، وموسكو، والرياض، وطهران. بعض آخر يعترض. «حزب الله»، مثلاً، له كتلة نيابية كبيرة، ومعظم نوابه يتميزون بالطلاقة والفصاحة بتوجيه التهم والتحذيرات. وللحزب قرار حاسم يعلنه ويكرره لمن لم يفهم بعد: تريدون رئيساً للجمهورية؟ العنوان العماد ميشال عون. لا تريدون عون؟ لن يكون للبنان رئيس جمهورية غير عون، مهما طال الزمن. نحن مرتاحون لوضعنا. لسنا مستعجلين. في المقابل هناك جملة مفيدة للرئيس الشهيد رفيق الحريري: «ما في حدا أكبر من بلده». لكن الواقع أن «حزب الله» بات أكبر من لبنان، ولديه «سلّة متكاملة»، بدءاً من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة مجلس النواب، إلى رئاسة الحكومة، والوزراء والنواب، وصولاً إلى الوظائف الكبرى، والوزارات التي تسمى «سيادية». يعني أنه مستعد للدخول في كل التفاصيل التي تشكّل دولة الكيان اللبناني ومستقبله. وقد يكون في حسابه إعادة النظر في هيكلية النظام من أساسه إلى رأسه. هي تكهّنات تجد مناخاً لها في هذه المرحلة من مسيرة لبنان. إذ لم يخطر في بال من وضع مسّودة الصيغة النهائية للدستور اللبناني أن يوماً ما في زمن ما، في أزمة ما، سوف يجد اللبنانيون جمهوريتهم بلا رأس، ولا مجلس نواب يشرّع، ولا حكومة تحكم، ولا شعب متوافق على حد مشترك للعيش بأمان وحرية، مع شيء من الديموقراطية، وبعض العدالة، وبعض المساواة. قديماً قيل: «لولا المكوّن الماروني لما وُجد الكيان اللبناني». وقيل في ما بعد: «لولا الموارنة لما كان للبنان أن يكون دولة مميزة في أسرة جامعة الدولة العربية». وقيل أيضاً: «لولا الموارنة لما كان للبنان أن يبقى ويستمر». والواقع أن اللبنانيين غير الموارنة، ومنهم المسيحيون والمسلمون من الطوائف الأخرى، لا يغيضهم أن يقرأوا أو يسمعوا مثل هذا الكلام المنقول عن مراجع تاريخية. وإذا كانت الأحزاب العلمانية تدعو إلى إلغاء النصوص الدستورية التي وزّعت المناصب الكبرى (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة) على الطوائف الثلاث (المارونية، والشيعية والسنية) فإن سائر الطوائف الأخرى، وعددها غير قليل، لم تعترض، وإن اعترض بعض منها، فإن الاعتراض لا يتعدى وجهة نظر، أما في الأساس فهناك غبن بحقوق الطوائف الأخرى يحرمها من مبدأ المساواة بين جميع مكوّنات الشعب اللبناني. ومع ذلك يرضى المحروم وليس يرضى الحارم. وإذ يقترب الكيان اللبناني من حدود الذكرى المئوية الأولى لولادته فإنه يواجه حالياً الأزمة الأصعب من كل ما مضى. هي ليست أزمة رئاسة تخصّ طائفة دون سواها. هي أزمة كل اللبنانيين المقيمين والمنتشرين في جميع أنحاء العالم. * كاتب وصحافي لبناني.