لم يستطع البشر الاتفاق على لغة مشتركة، كما تشير إليه التجربة مع لغة «الإسبرانتو»، ولكن الحواسيب تعد بحل مختلف لهذه المشكلة. وبدلاً من الاتفاق على لغة وحيدة وتعلّمها من قبل شعوب مختلفة، يمكن السير في الاتجاه المعاكس، بمعنى الحفاظ على اللغات كلها، وإيكال الأمر الى التقنية كي تنقل الأحاديث والنصوص بترجمة آلية من لغة إلى اخرى. ولهذا الأمر مناح متشابكة. ويلاحظ أن أحد مواقع الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، واسمه «زيها لايف» استعمل بنجاح تقنية الترجمة الآلية للكومبيوتر، فصنع شبكة تضم أفراداً من شعوب متنوّعة، فيتحدث كل بلغته، ويفهمه الآخر لأن الكومبيوتر يتولى الترجمة آلياً وفورياً. يتفرد موقع «زيها لايف» Xiha Life بأنه يقدم ترجمة فورية متعددة اللغات، ما يضمن استمراره كشبكة اجتماعية تهتم بالتواصل بين الأشخاص المنتمين الى شعوب مختلفة. وعلى الصفحة الأولى لهذا الموقع، هناك قسم لاستطلاع آراء الزوار. وغالباً ما تدور الاستطلاعات حول مسائل طريفة مثل : «كم لديك من الحيوانات الأليفة في منزلك»؟ و «هل تحب الرقص ليلاً في الديسكو في نهاية الأسبوع»؟ و «مارأيك في لبس الملابس المكشوفة في الصيف»؟ الأهم أن هذه الاستطلاعات، ككل أشياء الموقع، تجرى بلغات حيّة شتى بفضل ترجمة أوتوماتيكية فورية. ففي أسفل كل قسم من الموقع، هناك ازرار للترجمة. ولدى الضغط على زر منها، ينقل النص فورياً إلى اللغة الأخرى التي يرغب المستخدم في التواصل معها، باستخدام برنامج الترجمة الأوتوماتيكية في محرك البحث «غوغل». ويبدو أن النتيجة تمثل خبرة لطيفة، لأن التواصل يجرى من ضرورة معرفة لغة الآخر كشرط للتواصل معه. إذا رغبت في الحديث مع شخص من فرنسا، ليس عليك تعلّم الفرنسية. يكفي ان تكتب ما تريد قوله باللغة العربية، ثم تتولى الترجمة الفورية نقل النص الى الفرنسية. ثم يسير التواصل بينكما، وكأن عائق اللغة غير موجود البتّة! ولطالما وُصِفَت الترجمة الأوتوماتيكية في الماضي بأنها نكتة، خصوصاً مع الأسلوب المضحك الذي تقدمه عند ترجمة الجمل والعبارات. ولكن السنوات الماضية القليلة شهدت تغييرات كبيرة، وباتت التقنية اليوم شبه ناضجة. وأوردت مجلة «تكنولوجي ريفيو» الأميركية أخيراً أن بعض الأنكلوفونيين من مستخدمي الإنترنت في الولاياتالمتحدة، يتواصلون بسهولة مع أشخاص يتحدثون الفنلندية والألمانية والإسبانية والكورية وغيرها. كيف أصبحت هذه الآليات على هذه الدرجة من الذكاء والمهارة؟ جرى ذلك من طريق استخدام أساليب «إحصائية» فنية جديدة. فبدلاً من محاولة تلقين البرنامج قوانين اللغة، تمكن علماء الكومبيوتر من إيجاد مجموعة واسعة من الوثائق على الإنترنت سبق ترجمتها من قبل بشرياً، مثل الوثائق التي تتعلق بالأمم المتحدة والتي تتوافر في شكل روتيني بست لغات مختلفة، إضافة الى الصحف التي تصدر في غير لغة وغيرها. إضافة إلى ذلك دُرّبت الحواسيب تدريجياً على التعرّف إلى الكلمات والعبارات الرائجة في لغة ما، مع ما يقابلها في لغات اخرى. إنقاذ اللغات المنقرضة؟ لهذا السبب، يظهر «غوغل» وكأنه يقود هذا النشاط. إذ أنه المساحة الأفضل للعثور على كميات كبيرة من المستندات والوثائق، لا سيما بعدما حرص على اجتذاب المستخدمين واستدراجهم لوضع مزيد من المعلومات والوثائق على موقعه الشبكي، خصوصاً عندما أطلق مبادرة «حوسبة الغمام» الذائعة الصيت. ويعني هذا الأسلوب أيضاً أنه كلما نمت الشبكة وتوسعت، أصبحت الآليات المتعددة اللغات أفضل بكثير. يبدو أن الآثار المترتبة على تقدّم الترجمة الآلية، عميقة جداً على صعيد الجغرافيا - السياسية. ففي ما مضى، سادت حيرة لدى الخبراء في تخمين أي لغة قد تسود في الإنترنت على حساب الأخريات. وطُرِحت أسئلة من نوع: هل تبقى الإنكليزية اللغة - المعيار التي تقرّب بين اللغات الأخرى؟ هل تتفوق لغة الماندرين الصينية وتبرز وتتفوق على سواها بفضل كثرة من يستخدمها وصعود الصين عالمياً الى مصاف الدول الكبرى؟ وحاضراً، يبدو أنه لم تعد هناك حاجة إلى مثل هذه الاحتمالات، لأن الترجمة الآلية باتت الوسيلة المناسبة التي أزالت الحاجة إلى لغة عالمية أساسية. وبديهي القول أن هذه الترجمة تحتاج جهود المترجمين البشر للمزيد من الترجمة في نصوص القوانين والمحادثات والاتفاقات التجارية، والمفاوضات الديبلوماسية، والمسائل العلمية وغيرها. ولذا، ثمة اعتقاد بأن اللغة الإنكليزية ستبقى سائدة، ربما لفترة. وفي المقابل، يضمن المستوى الراهن للترجمة الآلية أن تجرى غالبية الناس عمليات الدردشة مع الأصدقاء الأجانب، أو تصفح الشبكة الدولية والاطلاع على مكنوناتها وغيرها. ويرد في موقع «زيها لايف» تصريح لجاني بينتينين، وهو المدير المسؤول عن الموقع، يقول فيه: «ربما لا تصلح الترجمة الآلية راهناً لترجمة كتاب. ولكنك تستطيع استعمالها للحديث إلى فتاة في الصين مثلاً». وقد أدخل بينتينين الترجمة في الشبكات الاجتماعية نظراً إلى رغبته في زرع التواصل والحديث بين اللغات. ونجحت فكرته بصورة جيدة، فاجتذب موقع «زيها لايف» 750 ألف عضو. ويتوقع بعض الأكاديميين أن تنقذ الترجمة الآلية اللغات الصغيرة من الانقراض. ففي التشيلي مثلاً، ربما يقضي الميل المتزايد لاستعال اللغة الإسبانية على اللغة الأصلية لشعب «مابوشي». وقد تتيح الترجمة الأوتوماتيكية لهذا الشعب التواصل مع العالم الخارجي، من دون التخلي عن لهجته المحلية. «تقلّل الترجمة الآلية الانجراف إلى التوحّد مع لغة واحدة سائدة»، بحسب كلمات جيمي كاربونيل رئيس «معهد تقنية اللغات» التابع لجامعة «كارنيجي ميلون» في الولاياتالمتحدة.