تعيش ألمانيا كابوس الخوف والقلق منذ وقوعها فريسة الإرهاب أربع مرات في أسبوع واحد. وتشير دراسة بعنوان «مخاوف الألمان»، الى تزايد وتنامي قلقهم من هجمات إرهابية جديدة. ويتضح من الدراسة التي أجرتها وكالة «في ار» للتأمين «أن الخوف من التعرض لهجمات إرهابية يحتل لأول مرة في ألمانيا المرتبة الأولى في قائمة مخاوف المجتمع الألماني». ويتضح من الاستطلاع الذي تضمنته الدراسة وشارك فيه 2400 شخص «أن 73 في المئة من الألمان يعتقدون بأنهم أصبحوا مهددين بالإرهاب، في وقت أعرب 68 في المئة عن مخاوفهم من التطرف السياسي، وأبدى 65 في المئة شكوكهم من مقدرة السلطة على أداء مهماتها ووظائفها الأمنية، وقال 65 في المئة أنهم يشعرون بقلق كبير من أخطار تدفق اللاجئين والمهاجرين الى البلاد». ووفق رئيسة القسم الإعلامي في الوكالة بريجيتا رومشتدت، فإن «الخوف من الإرهاب أصبح ملموساً بعد تصعيد داعش هجماته الإرهابية في أوروبا حيث ارتفعت نسبتها بمعدل 21 في المئة خلال فترة محدودة». وتسبب تراجع وكالة حماية الدستور(الأمن العام) عن تقديراتها السابقة التي استبعدت تسرب إرهابيين مع اللاجئين في تنامي هذه المخاوف، لا سيما بعد الكشف عن خلايا إرهابية نائمة تخطط لعمليات إرهابية في البلاد. فقد أعلن وزير داخلية ولاية الزار كلاوس بويلون في حديث مع صحيفة «هاندلزبلات» وجود نحو 100 إرهابي نجح التنظيم في تسريبهم الى أوروبا. وكانت وحدة مكافحة الإرهاب الألمانية ألقت القبض على خلية تضم أربعة أشخاص تبين أن ثلاثة منهم تسللوا الى البلاد مع طالبي اللجوء من تركيا واليونان عبر الطريق البلقاني. في إطار رد فعلها على التوترات الأمنية المتصاعدة في المجتمع، وتعمق المعضلات الناجمة عن سياسة فتح الحدود أمام موجات اللاجئين الجماعية، ولمواجهة الانفلات في الانتقادات من قوى وأحزاب المعارضة، ولتحجيم عامل الجذب الذي تحول الى سلاح فعال بيد الأحزاب الشعبوية والقومية المتشددة لزيادة نفوذها وتأثيرها في أوساط الجماعات الخائفة والساقطة في المجتمع، إضافة الى اشتداد وتيرة التناقضات المجتمعية التي أنتجتها تعارضات منظومات القيم والسلوك الاجتماعي الغربية مع الوافدين الجدد من الشرق الأوسط التي أسهمت في شكل غير مباشر في سيادة مشاعر الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا بين فئات واسعة من الألمان... انتهجت المستشارة مركل سياسة في اتجاهين، الأول تشريع قوانين أمنية جديدة تترافق مع اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً لمكافحة الإرهاب وتصفية خلاياه وجيوبه وسط اللاجئين والجاليات العربية والإسلامية، وفي هذا الإطار أنجزت طواقم متخصصة خطة تتكون من 9 نقاط لمحاربة الإرهاب والوقاية من آفات التطرف الديني، تتضمن حظر ارتداء النقاب، وإلغاء الجنسية المزدوجة وفرض رقابة مشددة على مصادر التمويل الخارجية للجمعيات والمراكز الإسلامية، وتسفير أئمة المساجد من دعاة الكراهية بين الأديان، وسحب الجنسية الألمانية من الألماني الذي يحمل جنسية أخرى إذا ثبت انه حارب في صفوف منظمة إرهابية. وبعد أقل من شهرين على إقرارها حزمة قوانين مكافحة الإرهاب، أصدرت حكومة المستشارة مركل حزمة ثانية، أكد المسؤولون أنها ستتيح للسلطات الأمنية توجيه «ضربات استباقية» للشبكات الإرهابية تضم إجراءات بدس المخبرين السريين في صفوف الجماعات المتشددة والشبكات الإرهابية، ومكافحة الجريمة المنظمة مع التركيز على عصابات تهريب البشر والأسلحة، وكذلك تبادل المعلومات على نطاق واسع مع الوكالات الاستخبارية الحليفة والأجنبية، إضافة الى تقييد شراء بطاقات مدفوعة مسبقاً للهواتف الجوالة إلا بعد تقديم إثبات للهوية الشخصية لمنع استخدامها من مشتبه في صلتهم بالإرهاب أو مجرمين. الثاني، تشريع قانون دمج اللاجئين، الذي اعتبرته مركل «نقلة نوعية» ستحسن فرص اللاجئين في سوق العمل واندماجهم في المجتمع الألماني، ووصفه نائب المستشارة وزير الاقتصاد سيغمار غابرييل بأنه «خطوة تاريخية» للتعامل مع تغيير عميق في المجتمع». هواجس ووقائع تدل تصريحات كبار السياسيين الألمان على أن بلادهم أصبحت هدفاً رئيساً للإرهاب، وقال رئيس دائرة حماية الدستور هانز جورج ماسن» أن خطر الإرهاب في ألمانيا داهم». ونقلت مجلة «جورنال الجيش الألماني» أن «7 في المئة ممن التحقوا بداعش والنصرة عادوا الى ألمانيا لأهداف تكتيكية». وتتولى الدائرة التحقيق مع أكثر من 600 مشتبه به وتفرض عليهم رقابة صارمة، ووفقاً لمكتب المخابرات الاتحادي فإن 200 شخص تدربوا لدى داعش عادوا الى ألمانيا خلال العامين الأخيرين، ولا يمكن اعتقالهم لعدم توافر أدلة دامغة تدينهم وفق القانون الألماني. وكان غادر العام الماضي 2015 نحو 150 ألمانياً الى العراق وسورية للقتال في صفوف «داعش»، ويشكل الإناث منهم نحو 5 في المئة وفق بيانات المكتب. وقالت المجلة نفسها عن مصادر بوزارة الداخلية» أن البعض من الجهاديين يعود إلى ألمانيا لتنفيذ مهمات لوجستية مثل توفير الأسلحة والتجهيزات العسكرية، أو لجمع التبرعات، وكسب المتطوعين الجدد». وتشير دراسة أجريت حول العائدين من سورية والعراق الى أن 11 في المئة يعودون بسبب «صحوة» أو خيبة أمل مما رأوه في دولة «الخلافة» فيما 9 في المئة بضغط من عوائلهم أو أصدقاء مؤثرين، كما أن التنظيم أبعد 10 في المئة لعدم تلبيتهم الشروط اللازمة». تولي السلطات الأمنية الألمانية اهتماماً كبيراً لظاهرة انخراط مراهقين واطفال في العمل الإرهابي، وأعرب وزير الداخلية الاتحادي توماس دي ماتيسيره عن قلقه من صغر سن بعض المشاركين في العمليات الإرهابية. وقدرت دائرة حماية الدستور في ولاية الراين الشمالي ويستفاليا عدد المتشددين تحت سن 18 سنة بنحو 2700، وذكرت في تقرير أصدرته أن 600 منهم تم تصنيفهم كقاصرين مستعدين لممارسة العنف، مع نسبة ترتفع الى الثلث من الراغبين في ارتكاب جرائم خطيرة. وحذر رئيس الجهاز ماسن من «التحول السريع والمستدام للمسلمين الشباب في سن المراهقة إلى التيار المتطرف» وقال أنهم» يطورون بصورة مستمرة الاستعداد والقدرة على طاعة أوامر داعش بقتل غير المسلمين بأي وسائل». وقال «إن من بين 820 متطرفاً ألمانياً سافروا الى سورية، كان يوجد 40 قاصراً 20 منهم فتيات قاصرات». ووفق تقديرات الأجهزة الأمنية الألمانية، فإن «عدد أتباع تنظيمي داعش والنصرة في ألمانيا يصل الى ما بين 6300 – 7000، وهم في تنام متواصل وكان العدد قبل سنوات لا يتعدى ال2800». ولا تخفي السلطة قلقها ومخاوفها الحقيقية من هذه الظاهرة». وذكرت صحيفة «نويه اوسنابروكر تسايتونغ» نقلاً عن مصادر في الشرطة الجنائية الفيديرالية حصول ارتفاع كبير في البلاغات عن وجود متطرفين داخل مخيمات اللاجئين حيث بلغت 369 بلاغاً مقابل 244 العام الماضي. ويقول الخبير الأمني فولفانغ بوسباخ» أن 60 في المئة من طالبي اللجوء في ألمانيا من دون هويات ثبوتية واضحة أو جوازات سفر». تحتضن ولاية الراين الشمالي ويستفاليا، العدد الأكبر من أفراد الجالية المسلمة التي يقدر عددها بأكثر من 4 ملايين وتشكل 5 في المئة من السكان، وتشهد هذه الولاية التي يبلغ عدد سكانها 20 مليوناً، أكبر نشاط للإسلاميين المتشددين وتنظيماتهم، وتمتلك الحصة الكبرى من أعداد الذين انضموا الى «داعش». وقال الخبير المتخصص في الإسلام بمؤسسة كونراد اديناور، وهي مؤسسة أبحاث ترتبط بحزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي الذي تتزعمه المستشارة مركل «قد نفاجأ بأن لدينا خمسة ملايين مسلم» وبالتالي ربما «ستجد ألمانيا نفسها وطناً لأكبر أقلية مسلمة في القارة الأوروبية». وأقامت المحكمة العليا في دسلدروف، ولاية ويستفاليا، دعوى قضائية ضد ما يسمى «شرطة الشريعة» التي جاب أفرادها شوارع مدينة فوبرتال ناصحين الناس بنبذ الخمور والقمار والمراقص والحانات. وأفاد تقرير ب « أن 6 من أفراد المجموعة ارتدوا صدريات برتقالية مشعة كتب عليها بالإنكليزية «شرطة الشريعة» في تعارض مع قانون التجمعات. واعتبر وزير داخلية الولاية هذه الشرطة بمثابة «إعلان حرب» ضد الديموقراطية». اندماج وعمل وعقوبات في غرفة الصف بمدرسة في برلينالشرقية، جلس عدد من اللاجئين في مقاعدهم الدراسية لتلقي دروس عملية في موضوع «الحياة في ألمانيا». يوزع المعلم عليهم قائمة بالأعياد الألمانية (عيد الفصح، أعياد الميلاد ورأس السنة، عيد العمل)، ثم يطلب من المشاركين في الدرس إبلاغه عن الأعياد المسيحية، وكذلك تصنيف هذه الأطعمة ومصدرها: البيتزا والكباب والشاورما والسلامي ألماني واجنبي، إضافة الى تحديد أي من التأمينات الاجتماعية يرونها ضرورية لهم خلال إقامتهم في ألمانيا. بعد أن كانت ألمانيا الجنة الموعودة التي يحلم بها اللاجئون والمهاجرون، يبدو أن قانون الاندماج الجديد الذي أقرته الحكومة في مايو الماضي وضع بداية النهاية لما ظل يعرف ب» عصر اللاجئ الذهبي»، وذلك لتضمينه بنوداً تقيد حصول اللاجئ على الإقامة الدائمة. المستشارة مركل اعتبرت «القانون» نقلة نوعية» ستحسن فرص اللاجئين في سوق العمل واندماجهم في المجتمع الألماني»، وقالت «إننا نقدم عرضاً جيداً بالفعل لمن يأتون إلى هنا، لكننا نقول لهم بوضوح اننا نتوقع منكم التعاطي الإيجابي مع هذه الفرصة الثمينة». وقال وزير الداخلية توماس دي ماتيسيره: «الاندماج ليس طريقاً ذا اتجاه واحد»، وأوضح» أن أفضل طريق للاندماج هو العمل، وأفضل طريق للعمل هو تعلم اللغة». وأضاف: «رسالتنا الى اللاجئين هي: لا يمكنكم النجاح هنا، إلا إذا بذلتم جهداً لتحقيق ذلك». وحذر «من يرفضون تعلم اللغة الألمانية ويرفضون السماح لأقاربهم بالاندماج، كالنساء والفتيات وكذلك، من يرفضون عروض العمل» وقال: «هؤلاء لن يحصلوا على تصريح إقامة مفتوح بعد السنوات الثلاث». حدد القانون الذي يعد الأول من نوعه في البلاد عدداً من الشروط الجوهرية لمنح اللاجئين حق الإقامة بعد خمس سنوات، من بينها «حصول اللاجئ على مستوى متقدم في اللغة الألمانية يوازي إتقان اللغة المطلوب من أي متقدم أجنبي للدراسة في الجامعات الألمانية، والانخراط في دورات الاندماج أو ما يسمى «الحياة في ألمانيا» التي يبلغ عدد ساعاتها 100، والعمل لتوفير الحد الأقصى من نفقات العيش». ويلوح القانون بعقوبات مالية على شكل تخفيض للمساعدات الاجتماعية لكل من يرفض أو يتقاعس عن الالتحاق بدورات اللغة أو ينقطع عن حضورها دون مبرر مقنع». وسيتحتم على الحكومة بمقتضى القانون أن توفر لطالبي اللجوء الذين ينتظرون البت بطلباتهم 100 الف فرصة عمل، كي يستطيعوا أن يخطوا الخطوات الأولى في سوق العمل الألمانية. وذكر موقع «برلينر مورغن بوست» أن «النموذج المقترح (العمل بيورو واحد مقابل كل ساعة)، وتتركز فرص العمل المتاحة في مراكز إيواء اللاجئين كأعمال التنظيف وتوزيع الطعام على اللاجئين». وقد تعرضت هذه الفقرة لانتقادات كثيرة من منظمات المجتمع المدني كونها تقلل من فرص اللاجئين في الحصول على فرص عمل اعتيادية، أو تمنعهم من الاستفادة من الفرص الأخرى المتوافرة. ووصفت منظمة «برو أزول» الداعمة للاجئين في ألمانيا القانون بأنه «شعبوي»، وقالت انه «يساهم في تكريس أجواء يمينية متطرفة في ألمانيا، لأنه يوحي بأن اللاجئين لا يريدون الاندماج». وقال مدير المنظمة غونتر بوركهارت في تصريح نقلته «دويتشه فيلله» ان «القانون يعيق الاندماج لأنه يلزم اللاجئين بالإقامة في مكان محدد». خصصت الحكومة الألمانية مبلغاً قدره 93.6 بليون يورو حتى العام 2020، لمواجهة أزمة اللاجئين في البلاد. وذكرت مجلة «دير شبيغل» أن «27.7 بليون يورو من هذا المبلغ ستنفق حصراً على تقديم إعانات ومساعدات اجتماعية للعاطلين من العمل من اللاجئين، ودفع مبالغ إيجار البيوت التي يسكنونها خلال السنوات الأربع المقبلة». وأضافت «إن الحكومة ستنفق مبلغاً قدره 5.7 بليون يورو على دورات تعليم اللغة الألمانية للاجئين ومبلغ 4.6 بليون لمساعدتهم على إيجاد فرص عمل». تسعى مركل من وراء تشريعها هذه القوانين واتخاذ حكومتها لهذه الإجراءات الى إثبات قدرة السياسة المركزية على مواجهة التحديات، ولكن هذه «القوانين العقلانية لا يمكنها أن تنافس الشعارات الشعبوية مثل (لا للجوء المسلمين) أو (أغلقوا الحدود)»، كما تقول المحللة الألمانية آنا ساوربراي في مقالة لها نشرتها «نيويورك تايمز»، وتضيف» أن السبيل الى مكافحة نفوذ اليمين المتطرف الجديد يقوم على التزام معيار الشفافية، والتحقيق في جميع الهجمات دون تحيز سياسي والتحلي بالواقعية، أي الإقرار بأن منع هذه الهجمات يستلزم التخلي عن الحرية والانفتاح اللذين جعلا ألمانيا موطناً يستحق الدفاع عنه، وهذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه ألمانيا والغرب».