حتى أُثبتَ لعمي جدارتي بعملي الجديد، أنادي بحماس: «مطرية... مطرية... مطرية». يبتسمُ، ويضحكُ زملاؤه السائقون، بينما تنظر إلي باندهاشٍ ثلاثُ سيداتٍ يَصْعَدْنَ الميكروباص. أكرر النداء محاولاً تعميق صوتي. تتسع ابتسامة عمي، ويواصل زملاؤه الضحك، بينما تستمر النسوةُ في التحديق بي، قبل أن ينقذَني أحدُ المارةِ بتساؤله: «أُمّال إحنا فين؟»، فأدركُ أخيراً أنني أقف على رأس ميدان المطرية. حدث ذلك في إجازة صيف العام 1988، قبل انتظامي في الصف الرابع الابتدائي. لم أخجلْ من نفسي وقتها، بل شعرت بالرضا عن سذاجتي التي تسببتْ في إسعاد أُناس لا أعرفهم، وانتزعتْ منهم لحظةَ فرحٍ عابرة، لم يرتبوا لها. خرجَ والدي من وظيفته الفنية في إحدى شركات قطاع الأعمال التي خُصْخِصَت أو تَخَصْخَصَت، ولكي يضمن استقراراً معيشياً، ذهب بمكافأة نهاية الخدمة (3 آلاف جنيه) إلى شقيقه، وعرض عليه الاستقالة من هيئة النقل العام، ومشاركته في ميكروباص جديد بالتقسيط. وافق عمي، واشتريا سيارة «رَمَى». انطلقت «الرَمى» بركابها ال11، وطفلٍ نحيفٍ يجلس مُكوِّراً جسده خلف الكرسي الأمامي، مستنداً بذراعه الأيسر إلى النافذة بعد التأكد من غلق الباب، وفق تعليمات عمه، وقابضاً بيده اليمنى على الأجرة التي جمعها من الركاب. فجأة، ينفتح الباب ويسقط الطفل على الأسفلت. عندما نظرتُ إلى عمي استوعبتُ للمرة الأولى ماذا يعني تعبير «لونه مخطوف». بالتأكيد، ندم لحظتها على تدخله لدى أبي ليوافق على خروجي معه. أنهى عمي مغامرتي عقب «الواقعة» مباشرة، لكنه كان يعوضني برحلة «اليوم الواحد» إلى فايد في بعض أيام الجمعة، حيث يُجلِسني بجواره طيلة مسافة الرحلة على مُجَسَّم أسطواني صغير بجوار الفتيس. كنت ُطفلاً سعيداً بمهارة القراءة التي اكتسبتها من المدرسة، أقرأُ لعمي اللوحات الإرشادية على الطريق، فيبتسم. صديقي الشاعر فعل العكس، استدعى شاعراً وصفه ب «المُزَيَّف»، بسبب هجومه على ثورة 30 يونيو، وقارن بينه وبين سائق الميكروباص المتجه بنا من الدقي إلى التحرير، معتبراً أن الأخير أكثر حساً ورهافة ووعياً من الأول. أعادني إلى ماضٍ مرَّ عليه أكثر من 28 سنة، لأتذكر أول مغامرة اقتحمتها طفلاً مع عمي، فأفرح بمشهد «التُّوهَهْ» في ميدان المطرية، وأشعر بالقوة وأنا أستعيد مشهد السقوط والنسوة اللاتي شيعنني إلى الآخرة وأنا حي. أنظر إلى صديقي، فأجده يهز رأسه طرباً، منفعلاً بصوت المنشد أحمد التوني: «مَنْ لامَنِي فِي الْحُبِّ يُرْمَى بِسَهْمِهِ»، ثم يبادرني مؤكداً وجهة نظره في السائق: «واحد بيسمع التوني، يبقى أكيد حسَّاس وبيفهم، مش حلوف». صغيراً، كنتُ أفهم معنى «حلوف» بأنه الشخص الغبي عديم الإحساس الذي لا يشعر بالذنب أو الندم، حتى إنه يُضرب فَيَضحك. كَبرتُ وعلمتُ أن الكلمة تعني الخنزير البري. عندما نطق بها صديقي الشاعر، استدعيت «الحظيرة» التي جرى ابتداعها منذ ما يزيد على عقدين من الزمن ل «تدجين المثقفين»، وتساءلتُ بيني وبين نفسي: «هل استبدَلَت الحظيرة بدجاجها خنازير؟» ثم أبديت اعتراضي للصديق على استخدامه كلمة حلوف. تطوَّرت علاقتي به من زمالة عمل في العام 2008 إلى صداقة قوية في العام 2011. منذ رأيتُ دموعه التي انتفضت لخيانة الإخوان للثورة في «محمد محمود»؛ وأنا أصدق أن روح شاعرٍ حقيقي تسكن فيه وأُقدر غضبه؛ لذلك أبديتُ اعتراضي بطريقة هادئة: «لا يا أخي، حلوف دي صعبة أوي، يمكن يكون في حالة تُوهه». قال بغضب: «»لو 30 يونيو نكسة، تبقى نكسة على الإخوان مش على مصر». يراه صديقي «حلوفاً»، وأراه رجلاً بائساً في بلد غريب، اضطرته ظروفه للعمل منادياً في ميدان المطرية، ينادي: «مطرية... مطرية... مطرية»، فينبهه أحد المارة المخلصين بأنه في المطرية بالفعل، فيتجاهله، ويواصل النداء وسط ضحكات السائقين، فينبهه مخلص آخر، فلا يصدقه ويسأل أحد الضاحكين من السائقين: «هوه إحنا في المطرية صح؟»، فيجيبه ب»لا»، ثم يؤكد له: «إحنا لسه هانروح المطرية»، فيواصل النداء بغباء يليق بجاهل، ولا يتدارك خطأه ببساطة تليق بطفل. يواصل النداء بعناد ليستكمل السائقون مشاهدة العرض باستمتاع. «صدقني حلوف»، قالها صديقي بحسم، فلم أردّ، ولو فعلتُ لقلت له إن الأزمة ليست فيه، بل في «حلاليف آخرين» يسعون للحفاظ على قواعد العيش في «الحظيرة»: الهجوم على الدولة نهاراً والنوم على سريرها ليلاً. ما يهمهم ليس سوى الحفاظ على أدوارهم المرسومة بدقة، ليضمنوا استمرار المِنَح. أترك صديقي لتأملاته، وأعاود التفكير في تفاصيل «واقعة الميكروباص»: لو لم أسقط، لربما استطعت في نهاية اليوم أن أقف برِجل واحدة على السلم. كنت سأعاني بحَّة في صوتي بنهاية اليوم، لكنه كان سيصبح، بعد أيام، أكثر خشونة. لو لم أسقط، لربما أعدتُ التجربة في إجازة الصف الخامس الابتدائي، وانتظرت فرصة مناسبة لأجرب بنفسي القيادة في الصف الثالث الإعدادي. لو لم أسقط لربما كانت مهنتي الآن سائق ميكروباص. ينبهني الصديق إلى ضرورة الاستعداد للنزول، بعد أن عبَرَ الميكروباص كوبري قصر النيل، فتوقف سيلُ تداعي الأفكار في ذهني. نزلتُ ونزلَ صديقي وهو يلعن كلَّ مزيفٍ دجال، بينما قررتُ أنا، في تلك اللحظة، محاولة قيادة «توك توك»، والعمل عليه ولو ليومٍ واحد في شوارع عين شمس والزيتون وعزبة النخل، وغيرها، غيرَ مهتم سوى بالتعاملِ مع بشر حقيقيين.