كان أول تعليق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عند ظهوره على الشاشة ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة هو «رب ضارة نافعة»، وقد نقل هذا الكلام إلى حيز التنفيذ. فعلى المستوى الشخصي، شنّ حملة للتخلص من عشرات الآلاف من خصومه «الغولانيين» في مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والأمنية، وانتهز الفرصة لإعادة هيكلة الجيش وترويضه وإخضاعه تماماً لسيطرة الحكم المدني المنتخَب، وفي الوقت نفسه أعطى عدداً من الإشارات إلى استعداده لإعادة حساباته مع الشارع والمعارضة، فدعا زعيمي المعارضة اليسارية والقومية أولاً إلى قصره وشكرهما على موقفهما من الانقلاب، ثم دعاهما إلى تظاهرة إسطنبول المليونية، وأسقط آلاف الدعاوى التي أقامها على منتقديه من إعلاميين ونشطاء سياسيين، ثم اعترف بذنبه واعتذر للشعب عن خطيئة التحالف مع فتح الله غولن وجماعته... وهي إشارات إيجابية، تشير إلى نية لمراجعة الحسابات، وإن كانت المعارضة تتمنى ترجمة هذه الخطوات الإيجابية عملياً عبر إشراكها في قرارات إنشاء مؤسسات الدولة التي قال أردوغان أنه سيعيد بناءها. وبعيداً عن محاولات التيارات الإسلامية و»الإخوانية» لتصوير ما حدث في تركيا على أنه نسخة معدلة لما حدث في مصر مع الرئيس السابق محمد مرسي، يعلم أردوغان في قرارة نفسه، ومن كان معه، حقيقة ما حدث في 15 و16 تموز (يوليو) الماضي. يعلم أن الجيش لم يحاول الانقلاب عليه، وانما كانت محاولة من جماعة الداعية فتح الله غولن المندسة داخل الجيش من أجل السيطرة أولاً على المؤسسة العسكرية، وثانياً استخدام الجيش للانقلاب على أردوغان، وعليه فإن القيادة الحقيقية للجيش لم تكن مع الانقلاب بل وقفت ضده. يعلم أردوغان أن الإسلاميين الغولانيين في الجيش هم من قتل الناس في الشارع وهم من حاولوا قتله، وأن القيادات العلمانية الأتاتوركية، التي طالما شعر بعدم الثقة بها، هي التي وقفت بجانبه وحمته وقاتلت ضد الانقلابيين وقتل عدد من قياداتها دفاعاً عن شرف الجيش وعن النظام الديموقراطي. يعلم أردوغان أنه لولا اتصال قائد الجيش الأول الجنرال أوميت دوندار به في مرمريس، وهو ليس إسلامياً بالطبع، ولولا تأمين ذلك الجنرال الأجواء والمطارات، لما تمكن ربما أردوغان من مغادرة مرمريس أو الوصول سالماً إلى اسطنبول. ويعلم أن قيادة القوات الخاصة في الجيش، وهم من أشرس العلمانيين، خاضوا ملحمة حقيقية في القتال ضد الانقلابيين لمنعهم من السيطرة على مقر القوات الخاصة في أنقرة. كما يعلم أردوغان أن الجنود الذين نزلوا الى الشارع خدعهم الانقلابيون عندما أمروهم بالنزول الى الشارع لتأمينه ضد عملية إرهابية ل «داعش»، وعندما واجههم الناس بالحقيقة وأن هناك انقلاباً حدث، فإن غالبيتهم عادوا الى ثكناتهم رافضين المشاركة في الانقلاب، إلا من أخذته العزة بالاثم أو كان من الانقلابيين ففضل أن يقتل الأبرياء. باختصار، يعلم أردوغان أن كل من خاصمه ولم يثق به من علمانيين ويساريين وليبراليين، وقفوا ضد الانقلاب، في الإعلام وفي البرلمان وفي المعارضة، وداخل الجيش ومؤسسات الدولة، وأن الجماعة الإسلامية التي تحالف معها ورعاها، وصد عنها كل مكروه ودافع عنها، ورد على كل من اتهمها بالفساد والعمالة والخيانة، هي التي حاولت قتله وهدم الديموقراطية في تركيا وحاولت إزاحته عن الحكم. أردوغان وكثيرون غيره في حزب العدالة والتنمية يرون اليوم هذه الحقيقة، مهمها حاولت وسائل الإعلام الموالية والإسلامية و «الإخوانية» في تركيا وخارجها، تصوير الأمر على أنه محاولة انقلاب من الجيش الأتاتوركي العلماني، صدها الشعب المسلم المؤمن لانتصاره للشرعية. يعلم أردوغان أيضاً أن نظام تقديم «أهل الثقة على أهل الخبرة» الذي بنى له سوراً من حوله يحيط به، لم يكن ذا فائده لحمايته من المحاولة الانقلابية أو كشفها مبكراً. فرئيس الاستخبارات هاكان فيدان الذي كان يسميه أردوغان «صندوق أسراري» بات المتهم الأول بالتقصير لأنه لم يبلغ الرئيس بمعلومة الانقلاب وانما اكتفى بإبلاغ قائد الأركان. وقائد الأركان نفسه الذي اختاره أردوغان بسبب علاقة قديمة جمعته معه، ظهر عاجزاً عن منع وقوع المحاولة الانقلابية رغم علمه بها قبل ساعات. يعلم أردوغان أيضاً أنه عندما اضطر ليقدم الاعتذار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه وقع ضحية بعض مستشاريه الذين أشاروا عليه بتهديد روسيا وتغيير قواعد الاشتباك، ثم سارعوا دون أي إذن بالتصريح عبر «تويتر» بنشوة المنتصر عن إسقاط الطائرة الروسية، في شكل قطع عليه خط الرجعة أو التفاهم أو المصالحة. حتى أن قيادات في الجيش أبدت استغرابها هذه «النشوة» الغريبة في الإعلان فوراً عن هوية الطائرة بينما الجيش ما زال يعد بياناً سيقول فيه إن الطائرة كانت مجهولة الهوية من أجل ترك مجال أمام أردوغان للمناورة إذا أراد الصلح. يدرك أردوغان أن هذا التيار «الإسلامي الإخواني» من مستشاريه ووزرائه هو الذي أغراه بدخول المغامرة في سورية، وأقنعه بأن هناك ضوءاً أخضر أميركياً لإسقاط بشار الأسد، وأن هذا يكفي، وأن لديهم القدرة على إطاحته في ثلاثة أشهر. حدث هذا فيما اعترف عدد من السفراء المتقاعدين بأن تقاريرهم الميدانية عن البلدان التي يخدمون فيها من 2008 الى 2012 كان مصيرها سلة المهملات، وكانت تبدَل بتقارير أخرى يتم الحصول عليها من مراكز دراسات تركية وعربية يجمع بينها الخط الإسلامي «الإخواني»، من أجل إقناع أردوغان بأن كل الآراء تؤيد ما يقولونه. وإلا فكيف يمكن حكومةً أن تقتنع بإمكان إطاحة الأسد في ثلاثة أشهر، بينما تقارير سفرائها من إيرانوموسكووواشنطن تقول عكس ذلك؟ وكيف يمكن زعيماً أن يقع في فخ طالما حذر الجميع منه، وهو فخ الطائفية الذي تنفخ إيران في ناره في المنطقة، لأنه السلاح الأهم في يدها لمد نفوذها على أراضي جيرانها. وكانت أنقرة دائماً تحذر من الوقوع في هذا الفخ، وتشدد على ضرورة مواجهة السياسات الإيرانية الطائفية بسياسات وطنية وقومية عربية وتركية. بين درسين قديم وجديد بدا أردوغان أنه استوعب الدرس قبل وقوع المحاولة الانقلابية الفاشلة، فاستغل إقصاء رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو عن الحكومة والمشهد السياسي، وبدأ إعلان تغيير جذري كبير في السياسة الخارجية لبلده، عبر تحقيق مصالحة مع كل من روسيا وإسرائيل، ثم التقارب مع دولة الإمارات، وتحدّث رئيس وزرائه عن احتمال مصالحات أخرى مع مصر وسورية والعراق. لم يكن في نية أردوغان ربما مصالحة نظيريه السوري بشار الأسد أو المصري عبدالفتاح السيسي، فالموضوع تجاوز السياسي إلى ما هو شخصي، وليس أي منهما مثل الرئيس الروسي بوتين الذي قدم له أردوغان الاعتذار، فالروسي رئيس قوي يسيطر على دولة قوية، وقد قُتل له طياران على يد سلاح الجو التركي ما قد يبرر لأردوغان تقديم تنازل معنوي له. لكن مجرد الحديث عن المصالحة مع الجيران، ولو من نوع خاص، أشّر إلى أن أردوغان بدأ فعلاً يعيد حساباته، ويرى أن «ربيع الإخوان» انتهى، وأن السير وراء السياسة «الإخوانية» في المنطقة ليس في مصلحته لا هو كزعيم ولا لتركيا كبلد، وأن عراب مشروع «ربيع الإسلام المعتدل في الشرق الأوسط» سيد البيت الأبيض شخص لا يمكن الوثوق بسياساته. ويرى أبعد من ذلك، أن المشروع برمته كان، في أفضل حالات التفاؤل، تمهيداً لمرحلة المصالحة مع إيران من أجل تشكيل شرق أوسط يتفاهم مع إيران ويشاركها الحكم فيه، أو في أسوأ حالات سوء النية، مشروعاً لتفكيك المفكك وتجزئة المجزأ وتفجير الأرض من أجل استنزاف القوى البشرية والاقتصادية والعسكرية للمنطقة، وإعادة رسم خريطتها. ثم جاءت المحاولة الانقلابية الفاشلة، فشاهد أردوغان موقف المعارضة السياسية والعسكرية منه في وقت الشدة، وتأكد أن خلافها معه سياسي فكري وليس وجودياً كما كان يعتقد، واكتشف كم كانت المعارضة السياسية والقيادة العسكرية محقتين في تحذيرهما إياه من جماعة غولن، وتنبه إلى موقف واشنطن التي بدت وكأنها على استعداد لتأييد الانقلاب والاعتراف به. ولا يستطيع أحد أن يقنع أردوغان بترك شكوكه من وجود إصبع أميركية في كل ما حدث، طالما أن فتح الله غولن يقيم في بنسلفانيا على أرض الولاياتالمتحدة التي ترفض تسليمه. ولعل أردوغان يدرك الآن، أنه كان ضحية المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير الذي كانت واشنطن تروج له، وتعد له ربما جماعة غولن كلاعب احتياطي، يمثل «إسلامها المعتدل» إذا انجرف حزب العدالة والتنمية الى التطرف. من هنا كانت الحملة الإعلامية لأذرع الجماعات الإسلامية و «الإخوانية» في تركيا واضحة الأهداف والمبررات، فالمراجعة السياسية الأولى لأردوغان قبل الانقلاب مع دول المنطقة، وضعتها في موقف حرج، بعد وصول تحذريات صريحة من الخارجية التركية لها بضرورة ضبط النفس. فكانت المحاولة الانقلابية فرصة تاريخية لهذه الجماعات لتصحح صورتها في عيني أردوغان، ولتزرع الفتنة بينه وبين من حاول إصلاح العلاقات معها سابقاً، فكانت الحملة «الإخوانية» على الإمارات والسعودية، وزادت الجرعة على روسيا أيضاً. واستغلت هذه الجماعات نفوذها القوي في مؤسسات الدولة التركية، وخصوصاً في وكالة انباء الاناضول الرسمية والتلفزيون الرسمي تي أر تي، حيث الأقسام الناطقة بالعربية تسلّمتها كاملة، وكانت دائماً جزءاً من القوة الناعمة للسياسة التركية في السنوات الأربع الأخيرة. في المقابل،كانت هذه الجماعات ولا تزال تشكل مصدراً أساسياً للمعلومات عن العالم العربي للرئاسة التركية، دون مراجعة أو تدقيق، فتوصِل الى القصر الصورة التي تريد عن المنطقة، بعد غربلة ما لا تريد أن يصل، وتشويه صور معارضيها بالكذب والتلفيق. حدود المناورة يدرك أردوغان الآن في شكل أوضح، الضرر الذي لحق به هو شخصياً وببلاده نتيجة رهانه على الجماعات الدينية والإسلامية. في الداخل خذلته جماعة غولن الإسلامية، وفي الخارج خذله التيار «الإخواني» فورطه في مغامراته الخاصة، وربط اسم تركيا بالجماعات الارهابية والمتطرفة. لكنه يعلم أيضاً أن تغيير هذه السياسة ليس بالأمر السهل، فرصيده في الشارع الإسلامي في العالم العربي كبير ولا يريد أن يتخلى عنه، كما أن مصالحه الاستراتيجية في سورية متعلقة بجماعات المعارضة المسلحة هناك، طالما أن موسكو لم تفتح له باباً للمشاركة ولم تغير سياساتها الداعمة بالمطلق للرئيس السوري. ناهيك بأن الوضع السياسي والاقتصادي في مصر لا يغري أي سياسي تركي بحضّ أردوغان على القيام بأي خطوة تجاه المصالحة مع السيسي في شكل حقيقي. كما أن ورقة «الإخوان» هي ورقة مثل أي ورقة سياسية مطروحة على طاولة السياسة في الشرق الاوسط، لا يريد أردوغان التفريط بها بلا ثمن. لكنه الآن وبعد إعادة حساباته، قد يقرر أن تكون ورقة «الإخوان» بيده هو، بعدما كان هو ورقة بيدها في السابق من دون أن يشعر بذلك. ولعله يدرك أن الدور التركي قد يكون الوحيد القادر على إنقاذ سورية من خطط التقسيم الخبيثة، لكنه أيضاً يؤمن بأن بقاء الأسد في الحكم لن يساعد على بقاء سورية موحدة أو مستقرة، وعليه إقناع صديقه الروسي بذلك. داخلياً وخارجياً يستطيع أردوغان أن يقدم الكثير من المفاجآت إذا شاء، على الرغم من التعب الذي ربما حل به إثر كل هذه التطورات المتسارعة في المنطقة وفي تركيا. وهو يحتاج إلى وقت للتفكير بهدوء، وإلى فرصة لإعادة الحسابات، وربما أن يرى أن هناك في المنطقة ممن ساءت علاقته معهم من هم على استعداد لمد أيديهم إليه من جديد إن هو قرر العودة إلى سياساته القديمة قبل «الربيع العربي». هو يستطيع إذا شاء، أن يستمر في سياساته الحالية، وأن يستغل المحاولة الانقلابية لتصفية جميع خصومه السياسيين، وليس جماعة غولن وحدها. يمكنه اختلاق مشكلة مع المعارضة على مسألة عودة عقوبة الإعدام مثلاً ويدعو لانتخابات مبكرة، تعزز تمثيل حزبه الحاكم في البرلمان وتفتح أمامه مسار وضع دستور جديد أو نظام حكم رئاسي موسع الصلاحيات كما كان يتمنى، وأن يدعم ذلك بسياسات اسلامية داخلياً وخارجياً، من أجل إقناع الشارع بالمشروع الإسلامي القومي التركي، بنظام رئاسي في الداخل، ودعم للتيارات الإسلامية في الخارج. وبإمكانه أيضاً أن يغير طريقه، وأن ينفتح على المعارضة، وأن يرى أن انتقاداتها لسياساته الخارجية كانت نصائح في محلها يَثبت اليوم مدى صدقها، وأن يعيد بناء تركيا بمشاركة المعارضة في ملحمة مصالحة وطنية كبيرة وتاريخية، وأن يكسر طوق جماعات «الإخوان» من حوله ويضعها في حجمها الطبيعي، وأن يعود بدور سياسي معتدل وإيجابي في المنطقة، يعادل ويوازن الدور الإيراني خارج أي صراع طائفي، ويطرح بالتعاون مع الروسي مخارج أخرى للأزمة السورية تكسر ثنائية إما الأسد وإما التيارات «الداعشية» و «النصرة»، وتعود معه تركيا نموذجاً في الشرق الأوسط، ولكن هذه المرة ليس للإسلام السياسي المعتدل، وانما للتنمية والاستقرار السياسي. فهل يفعلها أردوغان؟