عندما دخل باراك اوباما البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) 2009 قال الكثيرون إنه، وهو الوارث تعثرات المهمة المعلنة لحرب العراق «إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط» والأزمة المالية - الاقتصادية في أيلول (سبتمبر) 2008، سيكون في وضعية انتخاب جيمي كارتر عام 1976 في ظرف نتائج الهزيمة الأميركية في فيتنام (أيار/ مايو 1975)، قبل أن يأتي الجمهوري رونالد ريغان بعد أربع سنوات ببرنامج مناقض ل «الضعف الكارتري» ويقوم بالانتصار على السوفيات في الحرب الباردة (1947-1989). وفي حالات أخرى طرح البعض «اقتراب انهيار الامبراطورية الأميركية» بعمل مقارنات بين وضعية أوباما وتلك التي كانت لرئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشمبرلين في آخر الثلاثينات من القرن الماضي والتي دفعت به لتقديم تنازلات لإرضاء شهوة هتلر التوسعية في مؤتمر ميونيخ (أيلول 1938) وصلت إلى حدود قبول ابتلاعه تشيكوسلوفاكيا. لم يكن أوباما في وضعية كارتر ولا تشمبرلين في مؤتمر ميونيخ، وإنما أقرب إلى وضعية ريتشارد نيكسون (1969-1974) الوارث عن سلفه ليندون جونسون انغراساً لنصف مليون جندي أميركي في الوحول الفيتنامية، ليقوم بالالتفاف على هذا الظرف الفيتنامي عبر «استراتيجية خروج من فيتنام» كانت مظلتها سياسة الوفاق مع موسكو بريجنيف التي توجت في قمة موسكو (أيار 1972) وفي الوقت نفسه سياسة تقارب مع بكين ماوتسي تونغ - شوإن لاي منذ زيارة هنري كيسنجر السرية للعاصمة الصينية (تموز 1971) أضعفت الأوراق السوفياتية والفيتنامية معاً وأدت الى قبول بريجنيف سياسة الوفاق وموافقة الفيتناميين الشماليين على اتفاقية باريس (كانون الثاني - يناير 1973) المنظِمة للخروج الأميركي من عموم الهند الصينية والتاركة للتوازن المحلي على الأرض أن يحسم الأمور، وهو ما أنجزه الشيوعيون لمصلحتهم في ربيع 1975 في فيتنام ولاوس وكمبوديا، ولكن مع تزامن تسليم الهند الصينية لحلفاء موسكو فقد الكرملين نفوذه في الشرق الأوسط بدءاً من القاهرة في 1974. هنا، كانت سياسة أوباما متحددة أساساً عبر محاولة خطب ود الدول الكبرى بعدما تجاهلها بوش الإبن طوال عهده. ظهر هذا في قمة الناتو في ربيع 2009، ثم في قمة الدول الثماني في الصيف اللاحق، ليتبع أوباما هذا في آب (أغسطس) 2009 بالتخلي عن برنامج الدرع الصاروخي ارضاءً لروسيا، ورمى قضايا تايوان والتيبت وراءه من أجل المساومة مع بكين أو للضغط عليها: قاد هذا النهج إلى وضع كان أحد مظاهره ما جرى في 9 حزيران (يونيو) 2010 في نيويورك حين دعمت الدول الأربع الكبرى صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن (زائد ألمانيا) واشنطن في تبني القرار 1929 الذي افتتح مشهد عزل إيران دولياً، وهو ما لم يستطعه بوش منذ بداية الصدام الأميركي - الايراني في آب 2005 وحتى نهاية عهده، إذا لم يكن العكس قد حصل عندما كان المد الإقليمي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط بين عامي 2005 و2009 مرفوقاً بانقسام الدول الكبرى واختلافها مع (القطب الواحد للعالم) حول الموضوع الايراني. قبل هذا المشهد النيويوركي كانت ثمار السياسة الأوبامية ظاهرة في تعاون الدول الثماني الكبرى وبالذات الأقوى مالياً، أي بكين وطوكيو وبرلين، مع واشنطن في سياسة مشتركة لمواجهة أزمة أيلول 2008 المالية - الاقتصادية العالمية، وهو ما لم يحصل من طوكيو وبون في أثناء أزمة الدولار في عهد كارتر في السبعينات. من جهة أخرى، حصد أوباما من هذا النهج الجديد قدرة على لجم حركة الدول المتوسطة القوة لمنعها من تجاوز «الخطوط الحمر» كما حصل مع القرار 1929 الذي كانت ارهاصاته قد بانت بعد ساعات من اتفاق طهران بين إيران وتركيا (17 أيار 2010) حول الملف النووي الايراني (وهو لا يختلف كثيراً عن اقتراح الدول الخمس الكبرى زائد واحد الذي رفضته ايران قبل سبعة أشهر) عندما أعلن عن اتفاق أميركي – روسي – صيني على مشروع القرار أظهر التصويت عليه في نيويورك اتحاد الدول الكبرى ضد دولتين متوسطتي القوة هما تركيا والبرازيل. في هذا السياق، لا يمكن عزل التعاون الذي تبديه روسيا في الموضوع الأفغاني مع أوباما عن تلك الصورة، وإن كان يجب أن تضاف الى ذلك الموافقة الضمنية الأميركية (أو غض البصر)، مقابل التعاون الروسي في كل تلك المواضيع، على استعادة موسكو نفوذها السابق في المنطقة الممتدة بين كييف وبشكيك. أيضاً يحصل شيء مماثل من الصين والهند تجاه واشنطن وقلقها المتنامي من الأوضاع في كابول وفي الموضوع الباكستاني المتفجر، وهو شيء لا يمكن أن يعزل عما تناقلته الصحف الغربية عن اتفاق «ما» صيني- أميركي حول السودان في نيسان (ابريل) الماضي قيل إنه تضمن موافقة أميركية على حفظ المصالح النفطية الصينية في السودان بما فيه الجنوب ودارفور، ما تزامن مع سحب مرشح «الحركة الشعبية» ياسر عرمان ترشيحه للرئاسة ضد الرئيس عمر البشير، ثم اتجاه مسارات الحكومة والجنوبيين نحو قبول ضمني بانفصال متوقع كنتيجة لاستفتاء كانون الثاني المقبل في الجنوب. في المجمل، يمكن القول إن التوقعات حول «انهيار القطب الواحد» ابتعدت احتمالاتها مع سياسة أوباما الجديدة، ولو أدت سياسته إلى تقوية دول كبرى أو تعايش معها وقبِل بذلك مقابل مكاسب أميركية. في المقابل، فإن الدول الكبرى، بما فيها الصين وروسيا من دون الحديث عن فرنسا ساركوزي، لا تتجه نحو تبني سياسة مناهضة أو السعي لهدم الأحادية الأميركية في العلاقات الدولية البادئة منذ 1989، وإنما تتجه نحو استغلال الضعف الأميركي المستجد واستثماره لتحقيق مكاسب ذات طابع اقليمي موضعي وليست ذات طابع عالمي كما كان يفعل بريجنيف ضد نيكسون، أو ديغول ضد ثنائية قطبي الحرب الباردة. أيضاً، يمكن القول إن الضعف الأميركي البادئ في النصف الثاني من عهد بوش الإبن، ربما نتيجة طموحات امبراطورية عالمية هي أثقل من قدرة واشنطن، أصبح أقل في النصف الثاني من عام 2010 مما كان يوم دخول باراك أوباما إلى البيت الأبيض. * كاتب سوري