كلما التقى المخرج سمير حبشي مع الكاتبة كلوديا مارشليان في مسلسل درامي يتوسم الجمهور خيراً. مخرج سينمائي صاحب تجربة فريدة في عالم الصورة والمتخيل وأحد رواد الحركة السينمائية اللبنانية الجديدة، وكاتبة هي ابنة الاختصاص المسرحي وذات مراس في الكتابة الدرامية، يلتقيان ليس فقط حول نص وشخصيات وأحداث او وقائع وإنما ايضاً في الرؤية التراجيدية الى العالم المأزوم وأحوال القلق والاضطراب التي تسود الجماعات والأفراد. يأخذ بعضهم على كلوديا غزارتها في الكتابة ونظرتها التشاؤمية، لكنّ معظم ما كتبته درامياً هو من أفضل ما يقدم على الشاشات اللبنانية والعربية. في المسلسل الجديد «وين كنتي» (مروى غروب، ال بي سي) نحن أمام علاقات شائكة، انسانياً واجتماعياً، عائلياً وعاطفياً، علاقات فردية او جماعية، داخل الأسرة او خارجها. يكفي أن يقع الابن جاد (كارلوس عازار) في حب زوجة ابيه الشابة نسرين (ريتا حايك) التي تقع في حبه «المحرم» خائنةً الزوج الثري رمزي (الممثل الكبير نقولا دانيال) خيانة معنوية وعاطفية وفق الجزء الأول من المسلسل الذي ضم أربعين حلقة (تبث الحلقات الأربعون الأخرى والتي تم تصويرها في رمضان المقبل). وفي بداية حياتها الزوجية تواجه نسرين كراهية جاد الابن واخته جينا (آن ماري سلامة) فهي حلت محل امهما الراحلة التي ماتت غرقاً في النهر بينما كانت تنقذ ابنها جاد. إلا أن الابن والزوجة «الخائنين» لم يمضيا في الخيانة جسدياً (في الجزء الاول على الأقل) ما يعني خضوعهما للسلطة الرمزية للأب - الزوج وخوفهما من مآل الخيانة. لكن شخصية الاب (علي الزين) لن تغيب عن حياة نسرين نفسها، فهو كان سبب هجرها الأسرة المكونة من ام تقليدية خاضعة للأعراف الاجتماعية (رندا كعدي) وأخ فاشل وعاطل من العمل، تهجره زوجته الأجنبية مع ولديهما الصغيرين، وأخ آخر وهو فتى يعيش حالاً من البؤس المتعدد الوجوه تحاول نسرين إنقاذه. أما الابن «الخائن» جاد، فهو خطيب سيلا (جويل داغر) التي تقدم برنامجاً اذاعياً اجتماعياً جريئاً، والتي تعيش في عائلة تعاني حالاً من الاحباط بعد اتهام ابنها (شقيق سيلا) بارتكاب جريمة هو براء منها ودخوله السجن، مما يدفع بأخيه الكبير طلال الى السفر الى كندا هرباً من الجو البائس. وهذا البؤس ينسحب ايضاً على الأسرة الصغيرة المكونة من جينا (آن ماري سلامة في أداء لافت) شقيقة جاد وابنة رمزي التي تقع في خلاف مع زوجها الطامع بمال ابيها، وقد يكون مرض سيلا النفسي سبباً لانفراط زواجها الذي تم في ما يشبه «الصفقة» تدبراً لأمرها هي المريضة نفسياً. تبقى العائلة البائسة الأخرى التي تضم فتاة قروية تدعى قمر (رانيا عيسى) وزوجها وجدتها (الممثلة الكبيرة وفاء طربيه). وعلى ما يبدو كانت الفتاة هذه عشيقة لرمزي وقد أنجبت منه طفلاً اجبرها على إجهاضه وتدبر لها أمر الزواج من المزارع الشاب ليسترها مع جدتها في بيت قدمه لها مقابل صمتها عن الفضيحة. ينطلق المسلسل إذاً من هذه البنية المتداخلة التي ترتكز الى محور رئيسي هو العلاقة المعقدة والإشكالية بين الأب وزوجته الشابة والابن والتي منها تتفرع بنى اخرى تتجلى في أسرة زوجة الاب، أسرة الخطيبة، زواج الابنة السابق، اسرة الفتاة التي وقعت ضحية رمزي الاقطاعي... وعرفت الكاتبة والمخرج كيف يوظفان هذه البنى المتقاطعة والمتداخلة في آن عبر خط درامي تصاعدي تتنامى عبره الأحداث والمواقف وتزداد توتراً وتعقداً. وتمكّن الإخراج من ضبط إيقاع المسلسل وإبعاده من «خطر» الانفلاش او التبعثر نظراً الى تعدد الوقائع والمواقف والشخصيات. ولم يخل المسلسل من مقدار غير قليل من «التشويق» العاطفي والسردي: مصير غامض ينتظر الثنائي الخائن (الابن يخون الاب والزوجة تخون زوجها)، نهاية غامضة ايضاً تنتظر علاقة جاد بخطيبته سيلا التي خانها عاطفياً (حتى الآن)... وثمة نهايات غامضة تنتظر مصائر شخصيات اخرى رئيسية: رمزي الذي يشكك أهل زوجته الأولى الراحلة (خالتاه جناح فاخوري وانطوانيت عقيقي وزوج خالته جان قسيس) في كونه الوالد الحقيقي لجاد وجينا، قمر التي تبدو انها مقدمة على الانتقام من مغتصبها، شقيق الزوجة الشابة نسرين وأمها، زوج جينا السابق، حب جينا للعامل في مزرعة ابيها وسيم... ولا يمكن تجاهل الحب بين الخالة (انطوانيت عقيقي في اداء لافت) والشاب الفتى وبدا هذا الحب غير المتوازن موازياً لحب رمزي الستيني لنسرين الفتية. ليست المرة الأولى التي تعالج فيها العلاقة المثلّثة بين الاب والابن وزوجة الأب، فهذه العلاقة شغلت افلاماً عدة وروايات، ومن أجملها رواية الكاتب البيروفي «النوبلي» ماريو فارغاس يوسا «مديح زوجة الأب». لكن مارشليان سعت الى مقاربة درامية وجدانية عميقة، مضفية عليها طابع الصراع الداخلي الذي يعيشه هذا الثنائي اي الزوجة والابن، بين حب حقيقي وجارف وخوف من ارتكاب فعل الخيانة بحق الزوج اولاً ثم بحق الأب. ونجح هذا الثنائي، ريتا حايك وكارلوس عازار في تجسيد هذا الصراع ولكن من دون ان يبلغا ذروته (حتى الآن) ويمضيا في عيش لحظات الحب المجنون هذا. كارلوس ممثل جيد وطبيعي او واقعي اما ريتا الممثلة القديرة وصاحبة الموهبة الكبيرة فبدا اداؤها للشخصية «بريئاً» او اداء «تمثيلياً» مدروساً ولكن خالياً من نار هذه الشخصية «الفاتاليست» او القدرية. هل بدت الشخصية نفسها، بميولها وأحاسيسها غير الطبيعية، أقوى من ريتا كممثلة؟ الواضح ان ريتا بدت تحتاج الى نضج شخصية نسرين ودهائها والى تخطي الطابع «الطفولي» والبريء في أدائها للشخصية المعقدة.