قبيل المحاولة الانقلابية الفاشلة، في تركيا، تحالفت عوامل عدة لكبح جماح الرغبة التركية الخجولة والمترددة في تطبيع العلاقات مع مصر، لعل أبرزها تنامي أهمية الارتباط اللافت بين ذلك التطبيع والملف السوري بكل ما يطويه من مخاوف تركية متأججة في شأن الهاجس الكردي. فعلى رغم اقتناع أنقرة بأهمية التقارب مع القاهرة، فإن العامل الموجه والحاكم لسياستها الحالية وخصوصاً نهجها التصالحي إزاء دول الجوار الإقليمي، تجلى بامتياز في الأزمة السورية وما يتصل بها من مخاوف في شأن التطلعات الاستقلالية لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وقوات سورية الديموقراطية. ولما كان مستوى انخراط القاهرة في الأزمة السورية متواضعاً على نحو ما بدا في تضاؤل تأثيرها السياسي وغياب دورها العسكري في هذا الصدد، مقارنة بروسيا وإسرائيل أو إيران، على سبيل المثال، فإن الإلحاح التركي للتطبيع مع القاهرة يبقى خافتاً، على الأقل في الوقت الراهن. ومن جهة أخرى، يمثل تراجع العائد الإستراتيجي المتوقع لأنقرة من التطبيع المحتمل مع القاهرة، خصوصاً بعد استعادة العلاقات التركية مع تل أبيب وموسكو الدفء المطلوب بالتوازي مع نجاح أنقرة في تعزيز أواصر التعاون والشراكة الإستراتيجية مع إيران وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي، أحد أسباب خفوت الإلحاح التركي في التطبيع مع القاهرة. فاقتصادياً، لم تتحول مصر إلى رقم صعب في معادلة أمن الطاقة الإقليمي كروسيا وإسرائيل وإيران وقطر التي تعتمد عليها أنقرة في تلبية حاجاتها المتنامية من الغاز، كما تراهن عليها في مشاريع خطوط الأنابيب الإستراتيجية لنقل الطاقة من المنطقة إلى أوروبا عبر أراضي تركيا ومياهها الإقليمية. فضلاً عن ذلك، لم تصل العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا في أفضل حالاتها، حتى إبان حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، إلى المستوى الذي كان يتطلع إليه طرفاها وهو عشرة بلايين دولار لحجم التبادل التجاري سنوياً، إذ إنه لم يكد يلامس البلايين الأربعة في أحسن الأحوال. ولم تفلح اتفاقات التجارة الحرة التي أبرمها الجانبان في الارتقاء بمستوى العلاقات الاقتصادية بينهما، إذ طالما أبدت دوائر اقتصادية وتجارية رسمية وشعبية مصرية امتعاضها من منح تلك الاتفاقات الجانب التركي امتيازات اقتصادية إضافية على النحو الذي وسّع فجوة الخلل في الميزان التجاري المتفاقمة أصلاً لمصلحة الطرف التركي. وبناءً عليه، بدت العلاقات التركية المصرية مفتقدة الركائز الصلبة، إذ لم يلبث الشق الاقتصادي منها أن تهاوى بمجرد بروز الخلافات السياسية بين القاهرةوأنقرة على خلفية إطاحة مرسي، وذلك بخلاف ما جرى بين تركيا وكل من إسرائيل وروسيا وإيران خلال فترات الجفاء أو التوتر في علاقاتها، وخلافاً أيضاً للحال بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة إبان حقبة الحرب الباردة، أو حتى بين الكوريتين الغارقتين في كابوس مزمن ومتواصل من التوتر والتأزم. وخلافاً للنهج التركي التصالحي مع إسرائيل وروسيا وإيران، كان تشكيك الأتراك في حجم المغانم الاقتصادية والإستراتيجية المتوقعة لبلادهم نتيجة التطبيع مع مصر، التي تعاني اقتصادياً، كما أنها ليست عضواً في حلف الأطلسي أو حليفاً استراتيجياً لواشنطن، كفيلاً بتشجيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على انتهاز الفرصة للحفاظ على ما تبقى له من ماء وجه أمام شعبه عبر إظهار شيء من التمسك بالمبادئ الديموقراطية وعدم الاستعداد لتقديم تنازلات، من خلال التمنُّع والتفنن في وضع الشروط التعجيزية للتطبيع مع مصر، من قبيل إعادة دمج الإخوان المسلمين في العملية السياسية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء أحكام الإعدام والسجن المؤبد بحق قادة إخوانيين. وهي الشروط أو المطالب التي ترفضها القاهرة جملة وتفصيلاً معتبرة أن فيها تدخلاً سافراً وغير مقبول البتة في الشأن الداخلي المصري. هكذا، بدت العلاقات التركية المصرية أسيرة تحديين أساسيين، أولهما عارِضٌ ومستحدث يتمثل في وجود حاجز نفسي وسياسي شاهق بين الرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي وأردوغان، على خلفية اعتبار الثاني للأول سبباً لإطاحة تطلعات السلطان العثماني الجديد وطموحاته، واستياء الأول من الثاني كونه دائم التشكيك في شرعيته والقدح في مواقفه وسياساته. وجاء السيناريو الانقلابي الأخير في تركيا ليوسّع الفجوة المزاجية والنفسية بين أردوغان والسيسي، فعلى رغم التزام الدولة المصرية الصمت والحياد في بادئ الأمر، أبى الإعلام المصري المتطلع دائماً إلى تملق السلطة إلا أن يستفز أردوغان والشعب التركي برمته من خلال التعامل غير المهني المتشح بالشماتة مع ذلك الحدث الجلل. وما كاد الرئيس التركي يتجاوز محنته ويعلن القضاء على المحاولة الانقلابية، حتى كالت أنقرة اتهامات للقاهرة بعرقلة مشروع بيان طرحته واشنطن في مجلس الأمن، بناءً على طلب من تركيا، يدين محاولة الانقلاب، بعدما اعترض المندوب المصري على عبارة تضمَّنها مشروع البيان تؤكد «ضرورة احترام الحكومة المُنتخبة ديموقراطياً في تركيا»، مستنداً إلى أن مجلس الأمن ليس مخولاً تحديد ما إذا كانت الحكومة التركية منتخبة ديموقراطياً من عدمه، واقترح بدلاً منها الدعوة إلى «احترام المبادئ الديموقراطية والدستورية وحكم القانون». وهو الأمر الذي دفع بالمندوب الأميركي إلى رفض المقترح المصري، ووقف المشاورات حول مشروع البيان، بل وسحبه أيضاً، بما حال دون إصداره في نهاية المطاف، كون البيانات تصدر بإجماع أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر. ورداً على الموقف المصري، لم يتورع أردوغان عن تجديد هجومه على السيسي في تصريحات أدلى بها لقناة «الجزيرة»، مستنكراً ما وصفه بانقلابه العسكري على رئيس منتخب هو محمد مرسي. بينما لم تخل احتفالات مؤيدي أردوغان بفشل المحاولة الانقلابية من شعار «رابعة» الذي استخدمته جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. وهو ما ردَّت عليه وزارة الخارجية المصرية في بيان بأن «الرئيس أردوغان يستمر في خلط الأوراق وفقدان بوصلة التقدير السليم، الأمر الذي يعكس الظروف الصعبة التي يمر بها». وأضاف البيان: «من ضمن أكثر الأمور التي تختلط على الرئيس التركي، القدرة على التمييز بين ثورة شعبية مكتملة الأركان خرج فيها أكثر من ثلاثين مليون مصري للمطالبة بدعم القوات المسلحة، وبين انقلابات عسكرية بالمفهوم المتعارف عليه». أما التحدي الآخر فمُزمن ويتصل بافتقاد الطرفين الرؤية الإستراتيجية المتكاملة أو التصور الشامل لمسار علاقتهما وتطورها. فباستثناء محاولة أردوغان الاستفادة من وجود جماعة الإخوان المسلمين على رأس السلطة في مصر قبل ثلاثة أعوام لإتمام مشروعه الرامي إلى بسط نفوذه في المنطقة، لم يكن لدى تركيا منذ إعلان الجمهورية عام 1923 رؤية استراتيجية متكاملة وواضحة وطويلة المدى لتلك العلاقات. فيما لم تتحرر الديبلوماسية المصرية من العجز عن بلورة استراتيجية تعاونية متكاملة الأبعاد وواضحة ومرنة وبعيدة المدى حيال دول الجوار الإقليمي العربي كإثيوبيا وإيرانوتركيا. ومن هنا تتضح أهمية تأثير المتغير الدولي في مسار العلاقات التركية المصرية، خصوصاً حين الوقوف على درجة التماس الطردي ما بين العلاقات والتفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط من جهة، ومصالح القوى العالمية الكبرى ومشاريعها الإستراتيجية في تلك البؤرة الجيواستراتيجية والحضارية الحيوية من جهة أخرى. فكلما زادت هذه الدرجة وتلاقي التقارب بين تركيا وأي فاعل إقليمي آخر مع تلك المصالح والمشاريع بالإيجاب، حظي التقارب بدعم ومباركة من القوى الكبرى، والعكس صحيح. ولا يخفى أن المتغير الدولي، ممثلاً في سياسة الترغيب والترهيب الأميركية والأوروبية، أدّى دوراً محورياً في إذابة الجليد بين أنقرة وكل من تل أبيب وموسكو، قبيل المحاولة الانقلابية الفاشلة. فالتقارب التركي مع الأولى كان مُلحّاً لحماية أمن إسرائيل والتخفيف من العزلة الإقليمية والدولية التي طفقت تحاصرها أخيراً. بينما كان التطبيع التركي الروسي ضرورياً لتقليص حدة التوتر الذي تصاعد أخيراً بين موسكو والناتو بسبب حزمة الإجراءات الإستراتيجية الاستفزازية التي اتخذها الأخير على شاكلة الدعم الغربي عسكرياً وسياسياً لأوكرانيا، ثم نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بقاع شتى من شرق أوروبا، علاوة على تموضع الناتو جيواستراتيجياً في ربوع دول الفضاء السوفياتي السابق، وانخراط الغرب في إعادة الهندسة الجيواستراتيجية للشرق الأوسط، ضمن سياق ما يمكن وصفه باتفاقية «سايكس بيكو جديدة». وفيما تفتقد الكيمياء السياسية بين أردوغان والسيسي الحد الأدنى من التناغم النفسي والتفاهم السياسي، يبقى مصير العلاقات التركية المصرية رهناً باكتمال تلك العملية المعقدة وبما سوف تتمخض عنه من مخرجات يفترض أن تحدد الملامح الجيواستراتيجية الجديدة للإقليم الشرق أوسطي برمته. * كاتب مصري