فجأة، قدّم صوت فيروز نموذجاً عربياً أولاً عن التناقض العميق بين الإبداع والمُلكية الفكرية، ما يدعو لبنان والعرب الى التفكير عميقاً في قوانينهم وممارساتهم عن المُلكية الفكرية. ظهر الصراع بين المُلكية والإبداع في توصّل ورثة منصور الرحباني، متذرعين بما وصلهم بالوراثة من مُلكية فكرية، إلى كتم صوت فيروز ومنعه من إداء مسرحيات حملها صوتها وجهدها وعمرها، على مدار عقود. واستطاع ورثة المُلكية الفكرية استصدار حكم يقضي بألا تُغني فيروز مسرحيات مثل «صح النوم» و«لولو» و«الشخص» و«يعيش يعيش» وغيرها. في الجدال المديد لبنانياً وعربياً حول هذه المشكلة، أُغفلت مسألة الإبداع. لنعيد صوغ المشهد كي نتمكن من التقاط خيط التناقض المرير. ثمة ورثة لمُلكية فكرية استطاعوا أن يمنعوا فناناً مبدعاً من أداء أعمال فنية ساهم في ظهورها الى الوجود بجهده وإبداعه! لنقرأ المشهد بروية. هناك فيروز، وفي الجهة المُقابلة هناك من يستطيع منعها بفضل قوانين متشددة في المُلكية الفكرية. لم يساهم من يمنع فيروز في تلك الأعمال (بل ورث صكوكاً عنها)، لم يقدم جهداً في تأليفها أو تلحينها أو أدائها، ومع ذلك يستطيع منعها! أي تناقض شنيع، تحمله الرؤية المتطرفة للمُلكية الفكرية. حماية الإبداع والمبدعين: تلك هي الحجة المفضلة لأصحاب الرؤية المتشددة في المُلكية الفكرية. وفي لبنان، دأب غير لسان، خصوصاً وزراء الاقتصاد، على الترويج لرؤية متشددة ومنحازة في المُلكية الفكرية، بدعوى حماية الإبداع. تفضح حال فيروز هذه الحجة وتُعرّيها. المسألة مقلوبة كلياً. من لم يكن جزءاً من الإبداع ولا مساهماً فيه، يستطيع منع من كان أساسياً في الإبداع والفن، بفضل قوانين خشبية في المُلكية الفكرية! ما الذي قدّمه الورثة فناً وعطاء وفكراً، لأعمال إبداعية «كانت» فيروز مكوّناً أساسياً فيها؟ ما هو الإبداع الذي تحميه هذه الممارسة المتشددة للمُلكية الفكرية، عندما تنحاز الى الوارث الذي لم يعمل ولم يعط، على حساب من أعطى صوتاً وفناً وعرقاً وعمراً وجهداً وفكراً؟ لا يهدف هذا القول الى الانحياز لطرف أو لآخر، بل الى الإضاءة على مدى تخلّف النقاش لبنانياً وعربياً في شأن المُلكية الفكرية، وخصوصاً تغييبها مسألة العلاقة المضطربة بين الإبداع وتلك المُلكية. واستطراداً، فلربما أدى نقاش أكثر تعمّقاً إلى سؤال آخر عن مسرحيات رحبانية غدت جزءاً من الثقافة العامة للبنان، مثل «فخر الدين». وبديهي القول ان من الحجج الواهية لمتشددي المُلكية الفكرية، النقاش وكأن المسألة نزاع على وجود تلك المُلكية أو عدمها. لا شيء أكثر بطلاناً من ذلك. فالحال ان المسألة تتعلق برفض رؤية متشددة في المُلكية الفكرية، تجد مساحات واسعة لتتمدد عليها في الفن والموسيقى والمعلوماتية والكومبيوتر والانترنت، مدعومة باليد القوية الساطية لأصحاب المصالح والشركات العملاقة. ثمة مثال يأتي من تاريخ التكنولوجيا في الولاياتالمتحدة. فعند اختراع الطائرة، ظهر نزاع بين الإبداع والمُلكية في أميركا. إذ رفع بعض المزارعين دعاوى في القضاء الأميركي، اشهرها تلك التي رفعها آل كوسبي، ومفادها أن مرور الطائرات فوق مزارعهم تنتهك حقوقهم في المُلكية! والحال أن القانون الأميركي قبل ذلك، كان ينص على ان مُلكية الأرض تمتد إلى آخر نقطة في السماء. وسرعان ما تنبّهت المحكمة العليا في أميركا الى ان هذا النمط من القوانين بات متطرفاً ومتشدداً، بالقياس الى التطوّر إنسانياً واجتماعياً. ورُدّت دعوى آل كوسبي وأضرابهم. وغُيّرت القوانين كي تعطي للإبداع، وليس لوراثة المُلكية، اليد العليا. ويُعطي منع الفنانة فيروز من أداء مسرحيات ساهمت في إبداعها، على يد من لا يملك سوى وراثة المُلكية، مثالاً لبنانياً وعربياً واضحاً. وإذا نظر الى المسألة من زاوية التنازع بين الإبداع والمُلكية، تمثّل فيروز في هذا النزاع ما مثّلته الطائرة، فيما يقف الورثة في الزاوية التي وقف فيها آل كوسبي وغيرهم من مؤيدي التطرف في ممارسة المُلكية. فيروز «كانت» مُكوّناً أساساً في إبداع المسرحيات التي تمنع من أدائها راهناً. الارجح ان قوانين المُلكية الفكرية لن تستطيع منعها من أن تبقى، كما هي راهناً، صوتاً وموهبة وإبداعاً يحمل تلك الأعمال الفنية الى الناس والفن. ولادة هوليوود: ضد التشدّد في كتابه «ثقافة حُرّة: طبيعة الإبداع ومستقبله»Free Culture: The Nature & Future of Creativity (دار بنغوين - 2004، طبعة عربية قيد الصدور عن «مشروع كلمة - أبو ظبي»)، يورد لورنس لسيغ، بروفسور القانون في جامعة ستانفورد، سابقة آل كوسبي. ويقرّ بحقيقة فائقة الإثارة. إذ يوثّق أن صناعة الأفلام الهوليوودية بُنيت على يد كتيبة من القراصنة. فقد هاجر مبدعون ومخرجون من الساحل الشرقي قاصدين كاليفورنيا في مطلع القرن العشرين، جزئياً كي يهربوا من هيمنة براءات الاختراع التي حازها توماس أديسون: مبتكر صناعة الأفلام. ومورِست تلك الهيمنة عبر «تراست» احتكاري، هو «شركة براءات اختراع الأفلام» Motion Pictures Patents Company (اشتُهرت باسم «أم بي بي سي» MPPC) التي استند عملها الى براءات مُلكيّة اختراعات توماس أديسون. فقد كوّن أديسون شركة «أم بي بي سي» كي تمارس حقوق المُلكيّة التي نالها من اختراعاته، فأدّت تلك الشركة عملها بجدية تامة. وفي الكتاب عينه، يصف ليسغ تلك الحقبة قائلاً: «شكّل كانون الثاني (يناير) 1909 الحدّ الفاصل زمنياً الذي رُسِم للشركات كي تذعن لأحكام براءات الاختراع التي حازها تراست «أم بي بي سي». وفي شباط (فبراير)، احتجّ الخارجون على قانون المُلكيّة الفكريّة، الذين عُرفوا باسم المستقلين، على ممارسات ذلك التراست، وتابعوا العمل غير آبهين باحتكار أديسون. وفي صيف 1909، أضحى المستقلون حركة كبرى، ضمت صفوفها منتجين وأصحاب صالات عرض ممن اشتغلوا بآلات غير مُرخّصة، واستوردوا أكواماً من الأفلام كي يصنعوا سوقهم السرية. وإذ شهدت الولاياتالمتحدة نمواً انفجارياً للصالات التي تقدم عروضاً لقاء خمسة بنسات، ردّت «أم بي بي سي» على حركة المستقلين بتكوين شركة مستقلة هي «الشركة العامة للأفلام» كي تصدّ سبيل العمل على المستقلين. ومارست «الشركة العامة للأفلام» أساليب إرغام ذات طابع اسطوري. إذ صادرت المُعدّات والآلات غير المُرخّصة، وقطعت الإمدادات عن الصالات التي تعرض أفلاماً لا تملك أُذونات، وبالنتيجة، توصّلت الى فرض هيمنة احتكارية على سوق تبادل الأفلام في الولاياتالمتحدة، ما عدا تلك التي امتلكها المُستقِل ويليام فوكس، الذي أشهر تحديه لتراست «أم بي بي سي»، حتى بعد حصوله على إذن رسمي. وقد جوبه أولئك المستقلون بقسوة ضارية، لا تقل عما تفعله الشركات العملاقة في المعلوماتية حاضراً. لقد حاولوا وقف تصوير أفلام المستقلين عِبر وسائل مثل سرقة الآلات، وسرقة «نيغاتيف» الأفلام قبل تظهيرها، وخُرّبت المنشآت، بل جرى الاعتداء على الأجساد. ودفعت تلك الأساليب القهرية المستقلين الى الهجرة من الشاطئ الشرقي. إذ بدت كاليفورنيا نائية عن يد شركة أديسون، ما مكّن صُنّاع الأفلام من قرْصَنَة ابتكاره من دون خشية القانون. وتأقلم قادة صناعة أفلام هوليوود مع ذلك الأمر. وبالطبع، ترافق ذلك مع نمو سريع لمدينة كاليفورنيا. ولاحقاً، بسط القانون يده وصولاً الى الساحل الغربي. ولكنه أصبح فاقد الأنياب». ظهرت هوليوود لأن الإبداع لا يمكن وقفه، حتى لو فاز المتشددون بالقضايا، وحتى لو استطاعوا إخراس الأصوات، كالحال في مسألة فيروز. وتشهد المعلوماتية صراعاً ضارياً عن تلك الأمور، لكنه ما زال بعيداً من الدول العربية ومثقفيها. وللحديث بقية.