في كل مرة يذكّر فيها أحد بالعبارة الشهيرة التي تقول عن العرب إنهم أهل البدايات الجيدة لكنهم بعد ذلك أهل النهايات السيئة يطلع تساؤل حائر عمّن يكون قد قال هذا الكلام الذي يبدو في معظم الأحيان صحيحاً. أما الجواب فهو: لورانس. تي إي لورانس المعروف على مدى تاريخ القرن العشرين باللقب المحبب الذي اشتهر به: لورانس العرب. والذي تحول إلى عنوان شهير لذلك الفيلم الكبير الذي حققه عنه دافيد لين من بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف بين آخرين. ولقد أتى القول في واحدة من صفحات الكتاب الأشهر الذي وضعه لورانس وعنوانه «أعمدة الحكمة السبعة». وهنا إطلالة على القول والكتاب وصاحبه. «حكاية «أعمدة الحكمة السبعة» هي قصة الحرب والمغامرة، هي المختصر المتكامل لما يمكن أن يعنيه العرب للعالم. لقد احتل هذا الكتاب مركزه، فوراً، بين الكتب الكلاسيكية الإنكليزية. أما غنى الموضوع، وقوته، وميزة الأسلوب الرفيعة وتلك الشخصية الصوفية التي لا حدود لها، فإن كل ذلك رفع هذا العمل الجبار إلى ما فوق مستوى جميع المؤلفات المعاصرة». إذا كان السياسي البريطاني ونستون تشرشل قال هذا الكلام عن كتاب لورانس الأشهر، فإن هذا الأخير نفسه كان ينظر إلى عمله الذي كان هذا الكتاب بالذات خلاصته وسرده التاريخي على الشكل التالي: «أنا لم يكن لديّ طوال وجودي سوى رغبة وحيدة، وهي أن أتمكن من التعبير عن نفسي، بأيّ ضرب من ضروب الأشكال التخييلية، غير أن عقلي المشتت أكثر من اللازم، لم يعرف أبداً كيف يحصل على التقنية اللازمة لذلك، ثم أتت الصدفة، إضافة إلى مزاج منحرف بعض الشيء، لترمي بي في خضم العمل والفعل نفسيهما، وأعطتني مكاناً في الثورة العربية، موفّرة لي فرصةً لكي أخوض في مضمار الأدب الذي بدا بالنسبة إلي فناً من دون تقنية». وهذا الخوض، كما نعرف هو الذي أفضى بلورانس إلى وضع هذا الكتاب الذي منذ صدوره في طبعته الأولى المحدودة النسخ، للمرة الأولى في عام 1926، يُقرأ ويتَرجم باستمرار، ولا يكفّ عن إثارة المخيلات وشحذ المشاعر وكذلك عن توجيه أصابع الاتهام إلى السلطات البريطانية لكونها، وكما يؤكد لورانس دائماً - ومن دون أن يُقدم على تحويل رأيه هذا إلى فعل احتجاجي حقيقي -، غدرت بالعرب، إذ تخلت عنهم وعن مساندتهم في أحلامهم بعدما جرّتهم إلى حربها ضد الدولة العثمانية وانتصرت فيها نصراً «من المؤسف والمحزن، بالنسبة إلى لورانس، أنها لم تشركهم فيه ولم تمكنهم من جني ثماره». ولعل التناقض بين موقف الإدانة الذي يقفه لورانس في «أعمدة الحكمة السبعة» من الإدارة البريطانية، وبين مساره السياسي الذي لم يتأثر أبداً بذلك الموقف، هو الذي دفع العديد من المفكرين العرب، بدورهم، إلى توجيه أصابع الاتهام والإدانة إلى لورانس كونه «لعب دائماً لعبة مزدوجة لم يكن هناك أسوأ من النتائج التي تمخّضت عنها». كما دفع محللين ومؤرخين أجانب محايدين إلى القول إن «نموذج لورانس هذا، يمكن النظر إليه على أنه نموذجي لدى ذلك النمط من أصحاب النفوس المتعالية التي تكون عادة فريسة العدمية الميتافيزيقية، ويكونون في أعماقهم منزهين عن تفاصيل الشؤون الحياتية، لكنهم في الوقت نفسه يجعلون من السياسة ميداناً يؤكدون عبره ذواتهم، بشكل أفسح من ذاك الذي يسمح به الأدب أو ما شابهه». أجل، كان لورانس هذا كله، ولكن مهما كان رأينا فيه وفي حياته وتناقضاته، لا يمكننا أبداً أن ننكر أهمية كتابه الرئيسي «أعمدة الحكمة السبعة» وجماله، وهو الكتاب الذي لم يتردد جون فيلبي، الذي كان على أي حال يمثل نقيض لورانس ومنافسه الأساسي، من دون أن يعترف بأن «هذا مؤلف عظيم، وقد يكون أضخم ما صدر في هذا القرن». ولكن، بعد هذا كله ما هو هذا الكتاب؟ وما هي حكايته؟ في سرعة يمكن القول إن الكتاب هو «تاريخ الثورة العربية» كما كتبه لورانس، انطلاقاً من مشاركته في تلك الثورة، مشاركة رئيسة، وانطلاقاً من معايشته خلفياتها والمناورات والمؤامرات التي دارت من حولها. وكذلك هو في الوقت نفسه كتاب عن اكتشاف لورانس للعرب وتعرّفه بهم عن قرب. ولقد اختلط البعدان في صفحات الكتاب وفصوله اختلاطاً مدهشاً أعطاه قوته. ولئن كان لورانس، حين وضع كتابه بين 1925 و1926 بعدما «ارتاح» من هموم تلك الثورة، وابتعد عن خيباتها وعاد سيرته خادماً لحكومة صاحب الجلالة البريطانية، فإنه أبداً لم يسع إلى إيجاد أي تبرير لخيانة بريطانيا أحلام العرب وآمالهم، بل على العكس دان تلك الخيانة، ولو من موقع الرغبة في الحفاظ على مصالح بريطانيا نفسها. وهنا أيضاً لم يسيطر عليه مناخ رومانطيقي - هو في أساس فعله وكتاباته على أي حال - يدفعه إلى أَمْثلة كل ما له علاقة بالعرب. فهو، في طريقه، يحمّلهم جزءاً من مسؤولية ما أصابهم. والحال أن السنوات القليلة الفاصلة بين خوض لورانس معترك الثورة وكتابته عنها، كانت كافية له ليفكر ويحلل ويقرر بعمق. وهنا أيضاً تكمن نقطة أخرى من نقاط قوة «أعمدة الحكمة السبعة». أما عن حكاية الكتاب فيمكن الإشارة إلى أن لورانس بعدما أنجز مخطوطته الأولى، كاتباً إياها دفعة واحدة، بعد سنوات من التأمل، وانطلاقاً من ملاحظات كان دوّنها طوال عمله في خضم الثورة، أضاع تلك النسخة بطريقة غامضة، ما اضطره إلى إعادة وضع كتابه من جديد، ليصدره عام 1926 في طبعته الأولى المحدودة. وهذه الطبعة ما إن صدرت حتى تلقفها الهواة والقراء ما جعل سعر النسخة يرتفع إلى أرقام خيالية. وفي العام التالي صدرت نسخة من الكتاب مختصرة بعض الشيء بعنوان «ثورة في الصحراء». أما الطبعة النهائية والمتداولة، والتي ترجمت لاحقاً إلى عشرات اللغات فصدرت في عام 1935، أي العام الذي قتل فيه لورانس بطريقة غامضة. وهذه الطبعة النهائية أتت أشبه بمذكرات كتبها عقل مغامر يتذكر الآن «أننا عشنا سنوات طوال جنباً إلى جانب في صحراء قاحلة عارية أثناء النهار نكتوي بنار الشمس المحرقة وموجات الرياح اللافحة. وفي الليل كان يغمرنا الظل. وكم من مرة اعترانا الخجل وشعرنا أننا لا شيء يذكر أمام هذا السكون الرهيب الذي تفرضه النجوم المتلألئة. لقد كنا جيشاً منطوياً على نفسه من دون استعراضات ولا تحركات، مخلصين كل الإخلاص للحرية التي هي أسمى القيم». إن هذه العبارات التي يفتح بها لورانس فصول كتابه وحكاية العرب ومشاركته في ثورتهم، والتي تغوص في خلطها بين الحس الرومانسي والتعبير عن السعي إلى الحرية، تبدو متطابقة مع ما كتبه اللورد بايرون سابقاً حول مشاركته في الثورة اليونانية ضد السلطة العثمانية. غير أن هذا الحس الرومانسي لم يمنع لورانس من أن يضع لكتابه مقدمة أساسية وسياسية يقول فيها تحت عنوان «قاعدة الثورة»: «لقد اعتقد نفر من البريطانيين وعلى رأسهم كيتشنر أن من شأن ثورة العرب على الأتراك أن تتيح الفرصة لإنكلترا كي تنتصر على تركيا حليفة ألمانيا، العدو اللدود آنذاك. وكانت الروح العاصفة في الشعوب الناطقة بالعربية إلى جانب قوة تلك الشعوب وموقع بلدانها الجغرافي، من بين الأسباب القوية التي حملت على الاعتقاد بإمكان نجاح هذه الثورة. لذلك ترك أولئك النفر من البريطانيين الحركة العربية تولد وتنمو وتمتد بعد أن استحصلوا من الحكومة البريطانية على وعد صريح بمساندتها وتغذيتها ودعمها. غير أن الثورة الشريفية هذه كانت مفاجأة كبيرة للكثيرين، لأن الحلفاء لم يكونوا مستعدين لها، الأمر الذي جعلها تثير مشاعر متضاربة، وتكسب صداقات متينة تقابلها عداوات ضارية عنيفة دفعت بها وسط هذا الصدام العنيف للغايات والأهواء إلى طريق الضلال والضياع». وت إ. لورانس، كما نعرف هو المغامر والمقاتل ورجل وزارة الخارجية البريطانية، الذي ولد عام 1888، وامتهن علم الآثار وتجول في بلدان الشرق الأوسط قبل أن يُكلَّف بالتأليب على الثورة العربية، ثم يخيب أمله بعد انتصار الإنكليز، لكن هذا لم يمنعه من متابعة خدمتهم، وفي أفغانستان كذلك، حتى رحيله من جراء اصطدام دراجة نارية في عام 1935. [email protected]