«إن «أعمدة الحكمة السبعة» هي قصة الحرب والمغامرة، وهي المختصر التام لما يمكن ان يعنيه العرب للعالم. لقد احتل هذا الكتاب مركزه، فوراً، بين الكتب الكلاسيكية الانكليزية. فالحال إن غنى الموضوع، وقوته، وميزة الأسلوب الرفيعة وتلك الشخصية الصوفية التي لا حدود لها، كل ذلك رفع هذا العمل الجبار الى ما فوق مستوى جميع المؤلفات المعاصرة». إذا كان السياسي البريطاني ونستون تشرشل قال هذا الكلام عن كتاب لورانس الأشهر، فإن هذا الأخير نفسه كان ينظر الى عمله الذي كان هذا الكتاب بالذات خلاصته وسرده التاريخي على الشكل الآتي: «أنا لم تكن لدي طوال وجودي سوى رغبة وحيدة، وهي ان أتمكن من التعبير عن نفسي، بأيّ ضرب من ضروب الأشكال التخييلية، غير أن عقلي المشتت اكثر من اللازم لم يعرف أبداً كيف يحصل على التقنية اللازمة لذلك، ثم أتت الصدفة، اضافة الى مزاج منحرف بعض الشيء، لترمي بي في خضم العمل والفعل نفسيهما، وأعطتني مكاناً في الثورة العربية، موفّرة لي فرصة لكي أخوض في مضمار الأدب الذي بدا بالنسبة إلي فنّاً من دون تقنية». وهذا الخوض، كما نعرف هو الذي أفضى بلورانس الى وضع هذا الكتاب الذي لا يزال، منذ صدوره في طبعته الأولى المحدودة النسخ، للمرة الأولى في عام 1926، يقرأ ويترجم باستمرار، ولا يكفّ عن استثارة المخيلات وشحذ المشاعر وكذلك عن توجيه أصابع الاتهام الى السلطات البريطانية لكونها، وكما يؤكد لورانس دائماً - ومن دون ان يحوّل رأيه هذا الى فعل احتجاجي عمليّ حقيقي -، غدرت بالعرب، إذ تخلت عنهم وعن مساندتهم في أحلامهم بعدما جرّتهم الى حربها ضد الدولة العثمانية وانتصرت فيها نصراً «من المؤسف والمحزن، بالنسبة الى لورانس، انها لم تشركهم فيه ولم تمكّنهم من جني ثماره». ولعل التناقض بين موقف الإدانة الذي يقفه لورانس في «أعمدة الحكمة السبعة» من الادارة البريطانية، وبين مساره السياسي الذي لم يتأثر أبداً بذلك الموقف، هو الذي دفع الكثير من المفكرين العرب، بدورهم، الى توجيه أصابع الاتهام والإدانة الى لورانس كونه «لعب دائماً لعبة مزدوجة لم يكن هناك أسوأ من النتائج التي تمخضت عنها»... كما دفع محللين ومؤرخين أجانب محايدين الى القول ان «نموذج لورانس هذا، يمكن النظر اليه على أنه نمطيّ لدى ذلك النوع من أصحاب النفوس المتعالية التي تكون عادة فريسة العدمية الميتافيزيقية، ويكونون في أعماقهم منزّهين عن تفاصيل الشؤون الحياتية، لكنهم في الوقت نفسه يجعلون من السياسة ميداناً يؤكدون عبره ذواتهم، في شكل أفسح من ذاك الذي يسمح به الأدب أو ما شابهه». أجل، كان لورانس هذا كله، ولكن مهما كان رأينا فيه وفي حياته وتناقضاته، لا يمكننا أبداً ان ننكر أهمية كتابه الرئيسي وجماله، وهو بالطبع الكتاب الذي نتحدث عنه هنا، «أعمدة الحكمة السبعة»، الذي لم يتردد السير عبدالله جون فيلبي - والد العميل الإنكليزي الذي اشتهر باشتغاله لحساب الاتحاد السوفياتي كيم فيلبي -، الذي كان على أي حال يمثل نقيض لورانس ومنافسه الأساسي، لم يتردد دون ان يعترف بأن «هذا مؤلف عظيم، وقد يكون أضخم ما صدر في هذا القرن». ولكن، بعد هذا كله ما هو هذا الكتاب؟ وما هي حكايته؟ في سرعة يمكن القول ان الكتاب هو «تاريخ الثورة العربية» كما كتبه لورانس، انطلاقاً من مشاركته في تلك الثورة، مشاركة رئيسة، وانطلاقاً من معايشته خلفياتها والمناورات والمؤامرات التي دارت من حولها، وكذلك هو في الوقت نفسه كتاب عن اكتشاف لورانس للعرب وتعرفه اليهم عن قرب. وقد اختلط البعدان في صفحات الكتاب وفصوله اختلاطاً مدهشاً اعطاه قوته. ولئن كان لورانس، لم يضع كتابه إلا بين 1925 و1926 بعدما «ارتاح» من هموم تلك الثورة، وابتعد من خيباتها وعاد سيرته خادماً لحكومة صاحب الجلالة البريطانية، فإنه أبداً لم يسع الى ايجاد أي تبرير لخيانة بريطانيا أحلام العرب وآمالهم، بل إنه، على العكس من ذلك، دان تلك الخيانة، ولو من موقع الرغبة في الحفاظ على مصالح بريطانيا نفسها. وهنا أيضاً يمكننا ان نلاحظ كيف انه كان بعيداً من ان يسيطر عليه مناخ رومنطيقي - هو في أساس فعله وكتاباته على أي حال - يدفعه الى أمثلة كل ما له علاقة بالعرب. فهو، في طريقه، يحمل هؤلاء العرب، جزءاً من مسؤولية ما اصابهم. والحال ان السنوات القليلة الفاصلة بين خوض لورانس معترك الثورة وكتابته عنها، كانت كافية له ليفكر ويحلل ويقرر بعمق. وهنا أيضاً تكمن نقطة أخرى من نقاط قوة «أعمدة الحكمة السبعة». أما عن حكاية الكتاب فيمكن الاشارة الى ان لورانس بعدما انجز مخطوطته الأولى، كاتباً اياها دفعة واحدة، بعد سنوات من التأمل، وانطلاقاً من ملاحظات كان دوّنها طوال عمله في خضم الثورة، اضاع تلك النسخة بطريقة غامضة، ما اضطره الى اعادة وضع كتابه من جديد، ليصدره العام 1926 في طبعته الأولى المحدودة. وهذه الطبعة ما ان صدرت حتى تلقفها الهواة والقراء ما جعل سعر النسخة يرتفع الى أرقام خيالية. وفي العام التالي صدرت نسخة من الكتاب مختصرة بعض الشيء بعنوان «ثورة في الصحراء». أما الطبعة النهائية والمتداولة، والتي ترجمت لاحقاً الى عشرات اللغات فصدرت في العام 1935، أي العام الذي قتل فيه لورانس بطريقة غامضة. وهذه الطبعة النهائية أتت أشبه بمذكرات كتبها عقل مغامر يتذكر الآن «اننا عشنا سنوات طوالاً جنباً الى جانب في صحراء قاحلة عارية حيث كنا، أثناء النهار نكتوي بنار الشمس المحرقة وموجات الرياح اللافحة. وفي الليل كان يغمرنا الظل. وكم من مرة اعترانا الخجل وشعرنا اننا لا شيء يذكر أمام هذا السكون الرهيب الذي تفرضه النجوم المتلألئة. لقد كنا جيشاً منطوياً على نفسه من دون استعراضات ولا تحركات، مخلصين كل الاخلاص للحرية التي هي أسمى القيم». ان هذه العبارات التي يفتح بها لورانس فصول كتابه وروايته الخاصة لحكاية العرب ومشاركته في ثورتهم، والتي توازي في خلطها بين الحسّ الرومانسي والتعبير عن السعي الى الحرية، تبدو متطابقة مع ما كتبه اللورد بايرون سابقاً حول مشاركته في الثورة اليونانية ضد السلطة العثمانية. غير ان هذا الحسّ الرومانسي لم يمنع لورانس من أن يضع لكتابه مقدمة أساسية وسياسية يقول فيها تحت عنوان «قاعدة الثورة»: «لقد اعتقد نفر من البريطانيين وعلى رأسهم كيتشنر ان من شأن ثورة العرب على الأتراك ان تتيح الفرصة لإنكلترا كي تنتصر على تركيا حليفة المانيا، العدو اللدود آنذاك. وكانت الروح العاصفة في الشعوب الناطقة بالعربية الى جانب قوة تلك الشعوب وموقع بلدانها الجغرافي، من بين الأسباب القوية التي حملت على الاعتقاد بإمكان نجاح هذه الثورة. لذلك ترك أولئك النفر من البريطانيين الحركة العربية تولد وتنمو وتمتد بعد ان استحصلوا من الحكومة البريطانية على وعد صريح بمساندتها وتغذيتها ودعمها. غير ان الثورة الشريفية هذه كانت مفاجأة كبيرة للكثيرين، لأن الحلفاء لم يكونوا مستعدين لها، الأمر الذي جعلها تثير مشاعر متضاربة، وتكسب صداقات متينة تقابلها عداوات ضارية عنيفة دفعت بها وسط هذا الصدام العنيف للغايات والأهواء الى طريق الضلال والضياع». وت إ. لورانس، كما نعرف هو المغامر والمقاتل والكاتب وعالم الآثار ورجل وزارة الخارجية البريطانية، الذي ولد العام 1888، وامتهن علم الآثار وتجول في بلدان الشرق الأوسط قبل ان يكلف بالتأليب على الثورة العربية، ثم يخيب أمله بعد انتصار الانكليز، لكن هذا لم يمنعه من متابعة خدمتهم، وبالتحديد في أفغانستان كذلك، حتى رحيله من جراء اصطدام دراجة نارية في مسقط رأسه الإنكليزي تقريباً العام 1935. والحقيقة ان كثراً من الناس لا يزالون يعتقدون حتى اليوم ان مقتل لورانس على تلك الشاكلة إنما كان اغتيالاً سياسياً في حقيقة أمره. [email protected]