مضى ما يزيد على عشرين عاماً على زلزال دخول الإنترنت عوالم صحافة الورق، الذي ترافق مع حدوث تغيّرات جذريّة في مؤسّسات «السلطة الرابعة» وأعمالها خلال السنوات الماضية، إذ بدت تلك الشبكة العملاقة كأنها تقوّض ببطء النموذج الاقتصادي الذي تستند إليه الصحافة المطبوعة عالميّاً. في المقابل، وسط ما يشبه حال الضياع في ضباب تلك التغييرات الكبيرة، لم يتبلوّر بوضوح بديل متكامل يضمن للصحافة الاستمرار كمشروع اقتصادي رابح. ولعل ما أعلنته أخيراً مؤسّستان صحافيّتان لبنانيّتان راسختان (هما صحيفتا «السفير»، «النهار») عن وجود أزمة ماليّة لديهما تجبرهما على اتّخاذ إجراءات تقشّف جذريّة، هو نموذج عربي من تلك الظاهرة العالميّة. وبعد عقدين من انبثاث الإنترنت في نسيج العمل الصحافي بأكمله، يبدو أن ثمة تحوّلاً آخر أخذاً في الصعود، وببطء أيضاً، إذ تتبلور ملامح عن ظواهر جديدة في علاقة الصحافة بالإنترنت، تمنح بعض الأمل بأن تعثر الصحافة المكتوبة على طرق جديدة، تأخذها بعيداً من التشاؤم الذي بات يطبق على مستقبلها. واستطراداً، لم تعد العوالم الرقميّة تعني بالضرورة منافستها لصحافة الورق، بل يمكن أن تكون الفضاء الذي تتمدّد فيه وتنتعش، مشاريع الصحافة التقليدية والإلكترونيّة على حد سواء. مداخيل متغيّرة وفق تقرير مؤسّسة «الرابطة العالمية للصحف وناشري الأخبار» World Association of Newspapers & News Publishers الذي صدر منتصف العام الماضي متضمّناً بيانات من 70 بلداً، تشهد تركيبة مداخيل الصحف العالمية في الدول التي شملها البحث، تغييرات بنيوية شديدة الأهمية. فلم تعد المداخيل التي تحقّقها الإعلانات على الصحف الورقيّة تمثّل الجزء الأهم من عائدات الأخيرة، كما كان الحال لقرن كامل. ومع تراجع الإعلانات في الصحافة عالميّاً، تفوّقت عليها المبالغ التي تجمع من بيع النسخ الرقميّة، والاشتراكات لقراءة الصحف على الإنترنت، والحصول على تطبيقات عن الصحف على الأجهزة النقّالة. ووصلت تلك المبالغ الأخيرة إلى ما يعادل 92 بليون دولار سنويّاً، في ما بلغت الأموال التي جمعتها الإعلانات على الصحف الورقيّة، قرابة 87 بليون دولار. وفي أوقات سابقة، كان الشطر التقليدي لحصة الإعلانات من إيرادات الصحف يلامس ال82 في المئة من عائداتها الكليّة في الدول الغربية. و42 في المئة في بقية دول العالم. ويشير التقرير عينه إلى أنّه، على رغم أن الصحف بنسخها الورقيّة ما زالت تحقّق معظم إيرادات الصحف، بمعنى أن 92 في المئة من العائدات تأتي من بيع الصحف الورقية والإعلانات المنشورة عليها، إلا أنّ هناك تنامياً مستمراً في عائدات بيع النسخ الرقميّة من الصحف على وسائط مختلفة كالكومبيوتر الشخصي والهاتف الذكي والأجهزة الإلكترونيّة النقّالة. وتبيّن أن الوقت الذي يصرفه المتابع على تلك الأجهزة النقّالة يتعدى في دول كالولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة، ما يقضيه في مشاهدة أجهزة التلفزيون أو الراديو. إذ يقضى الفرد الأميركي أو البريطاني 2.2 ساعة يوميّاً أمام شاشات الإنترنت والأجهزة الالكترونية النقّالة، في مقابل 81 دقيقة للتلفزيون. وتبيّن الإحصاءات الواردة في التقرير أيضاً، أن المعدل الذي يقضيه المستهلك العادي أمام شاشة الكومبيوتر الشخصي، صار أقل من الوقت الذي يخصّصه لمتابعة شاشات الأجهزة الإلكترونيّة النقّالة، في معظم الدول الغربيّة. وكذلك لا تزال حصة المواقع الشبكيّة للصحف الورقيّة أو المواقع الإخبارية الحصرية على الإنترنت، من عائدات الإعلانات على الشبكة العنكبوتية محدودة مقارنة بما تحصل عليه مواقع الإنترنت العملاقة ك «غوغل»، «فايسبوك»، «ياهوو» وغيرها. حصص العمالقة وفق بحث ل «مركز بيو للبحوث» Pew Research Center الأميركي عن حال السوق الإعلامية في الولاياتالمتحدة في 2014، حصلت شركات الإنترنت العملاقة على 30.9 بليون دولار من المجموع الكلي لسوق الإعلانات الرقميّ في الولاياتالمتحدة الذي بلغ 50.7 بليون دولار. كما واصلت عائدات الإعلانات الرقميّة على وسائط الأجهزة النقالة ارتفاعها، فوصلت في الولاياتالمتحدة إلى 19 بليون دولار في 2014، بزيادة بنسبة 78 في المئة عن العام الذي سبقه. ويؤكد تقرير «مركز بيو للبحوث» الاستنتاجات التي خلصت إليها «الرابطة العالمية للصحف وناشري الأخبار»، بصدد التقدّم المضطرد في أعداد مستخدمي الأجهزة النقالة ممن يتابعون مواقع الصحف والأخبار على الشبكة العنكبوتية. إذ تبيّن للمؤسّستين أن غالبيّة متصفحي المواقع الإخبارية الخمسين الأولى في الولاياتالمتحدة، دخلوا إلى تلك المواقع من أجهزتهم النقّالة، على رغم أنهم يقضون وقتاً أقل على تلك المواقع، مما يفعل مستخدمو الحواسيب الشخصيّة. ووصل عدد الذين تصفّحوا موقع قناة «سي آن آن» الأميركيّة على الإنترنت عبر أجهزتهم النقالة إلى قرابة 64 ألفاً، مقابل 53 ألفاً تصفّحوا الموقع عينه من حواسيبهم الشخصيّة، في شهر كانون الثاني (يناير) 2014. لا تعني الأرقام السابقة كلّها أنّ الصحافة الورقيّة خرجت من النفق الطويل الذي دخلته مع عصر الإنترنت. فما زالت أرقام مبيعات الصحف الورقيّة في تراجع. ففي العام الماضي، أنتجت المطابع البريطانية نصف مليون نسخة أقل من الصحف الورقيّة مقارنة بالعام الذي سبقه. في المقابل، توصل مطالعة أرقام العامين الأخيرين، إلى بدء تشكّل نموذج اقتصادي مختلف، يجمع بين أنواع عدّة من المداخيل، لعل أبرزها عائدات بيع الإعلانات والإشتراكات على وسائط رقميّة متنوّعة. كما تواصل تكنولوجيا تصميم التطبيقات الرقميّة للهواتف النقالة الذكية، والألواح الإلكترونيّة، تطوّرها بما يمنح الجمهور تجربة قراءة تفاعليّة للصحف على تلك الأجهزة.