ثمة مشكلة كبيرة في هذا العالم العربي مع الأرقام أو الأعداد، سواء كانت على شكل قياسات، أو إحصاءات، أو تواريخ، علماً أن هذه الأعداد يمكن أن تشكل أعمارنا، وتقيس إمكاناتنا، وتحدد مستوى تأخرنا أو تطورنا، وتبين قدرتنا على مواجهة هذا التحدي أو ذاك، وتسجّل للسيء أو الجيد من أيامنا. هكذا، وعلى عكس الانطباع السائد فإن الأرقام ليست جامدة، ولا محايدة، فهي من لحم ودم، وهي بمثابة حياة، مثلما تؤرّخ لنمط حياة، ينبني على القياس والمعايير، وحساب الوقت والكميات، ويتأسس على الجدية والمسؤولية، والمراجعة والتجاوز. مناسبة هذا الكلام ما أورده الدكتور عامر الخياط (الأمين العام للمنظمة العربية لمكافحة الفساد)، في تقرير كان قدمه أمام المؤتمر السنوي للمنظمة العربية للتنمية الإدارية (القاهرة 3-5/7)، تحت عنوان «نحو استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد». وبحسب التقرير فثمة ألف بليون من الدولارات، تعادل ثلث الناتج الإجمالي العربي طوال نصف القرن الماضي (1950- 2000)، تم إهدارها، أو صرفها، بطريقة غير مشروعة، أي بسبب الفساد. أما الثلث الثاني فذهب لشراء أسلحة (ربما لا لزوم لغالبيتها أو لا جدوى من معظمها). وفقط فإن ثلث ذلك الناتج المذكور هو الذي ذهب للإنفاق على مشاريع تنموية وتعليمية وعلى البني التحتية. ويقدّر الخياط بأن تلك الألف بليون لو «أحسن استغلالها في التنمية في الدول العربية الفقيرة» لأمكن التغلب على مشكلة الفقر والغذاء، ورفع دخل المواطن العربي بنحو 200 دولار، وتحقيق الاكتفاء من المياه، بدلاً من مشاريع تحلية المياه المكلف، ولتم محو الأمية وتوفير فرص عمل». وكان يمكن لتصريحات بهذه القوة والخطورة أن تسقط حكومات، أو أن تطرح مساءلتها، ومحاسبتها، ولكن الواقع في البلدان العربية (على صعيد الحكومات والمجتمعات) هو في ركود مقيم، لكأن لسان حال الشاعر ما زال يقول: «لقد أسمعت لو ناديت حياً... ولكن لا حياة لمن تنادي»؛ لذلك فقد مرت هذه التصريحات، تماماً مثلما مرت قبلها أحداث جسام، من نكبة فلسطين (1948)، وهزيمة حزيران/يونيو (1967)، والحرب الأهلية في لبنان، واجتياح بيروت، واحتلال الكويت، ثم احتلال العراق، وغير ذلك من الحوادث أو الكوارث الاقتصادية والاجتماعية. المعضلة في واقعنا العربي لا تكمن فقط في إهدار، أو ضياع، كمية من الأموال بهذا الحجم (علماً أن أقصى طموحات مشروع الشرق الأوسط الجديد في أواسط عقد التسعينات الماضي كانت تتحدث عن صندوق تمويل يحتوي على 50 بليون دولار فقط)، وإنما هي تكمن، أيضاً، في تضييع أعمار أجيال من البشر، وإهدار فرص اقتصادية يصعب تعويضها، والمعضلة الأكبر أن هذا الواقع ما زال مستمراً، باستمرار عمليات الإهدار من دون أي كابح أو رادع. وعودة إلى قصة الألف بليون من الدولارات المهدورة، فإن الارتقاء بمجالات الصحة والتعليم والبحث العلمي والخدمات والضمانات الاجتماعية والبني التحتية والاستثمار في القطاعات الاقتصادية، في العالم العربي، كان يحتاج إلى بضعة مئات، فقط، من هذه الألف. ولعل هذا يفسر أن دولاً عدة، ضمنها تركيا وماليزيا والهند والبرازيل، تجاوزت بنهوضها الواقع العربي (على الفساد الذي فيها)، بعد أن كانت في مصافه في منتصف القرن الماضي. ولعل ما يميز عمليات الفساد في العالم العربي (وغيره مما يسمى دول العالم الثالث حيث تغولت السلطة على الدولة)، أن معظمها يجري بطريقة منظمة، ومشرعنة (بطريقة غير مباشرة)، بحيث يصح القول بأن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة». ففي الواقع العربي ثمة سلطات شمولية مهيمنة على السياسة والاقتصاد، على المجتمع كما على جهاز الدولة البيروقراطي، على جهاز القضاء كما على جهاز الشرطة، على الثقافة وأنماط السلوك والاستهلاك كما على المدارس ووسائل الإعلام، على الماضي والمستقبل كما على الحاضر. هكذا ففي ظل السلطة المطلقة ليس ثمة مجال عام، ولا مواطنين مستقلين عن جهاز السلطة، فقط ثمة مواطنين رعايا. وفي دول هي على هذا الشاكلة، أو وصلت إلى هذا الدرك، فمن البديهي أن لا يتمظهر الفساد على شكل نهب موارد مالية، أو اقتناص فرص للربح غير المشروع، أو هدر إمكانات في غير محلها، وإنما هو فوق ذلك كله يتمظهر، أيضا، على شكل فساد ثقافي، وانحلال اجتماعي، وتهتك أخلاقي، وتشوه في النمو الاقتصادي، ولامبالاة إزاء المصائر السياسية؛ وهنا يكمن المعنى الدقيق لمقولة «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة». على ذلك لا داعي للتشاطر، وطرح الوصفات العلاجية الجاهزة، لأن السلطات المطلقة، التي تدرك إنها فوق المواطنين والقانون والسلطات الدولتية (التنفيذية والقضائية والتشريعية)، تعرف تماماً ما تفعل. فهي السلطات تشرعن الفساد والاستباحة، وتنسج علاقات قائمة على الرشوة والزبائنية (في المرتبة الوظيفية والمنفعة المادية) لتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وخلق قطاعات اقتصادية مدينة لها، أو معتمدة عليها، ما يجعل من هذه الفئات بمثابة ركيزة من ركائز السلطات القائمة، وعامل من عوامل إطالة عمرها. وإذا كان الاستبداد، الذي ينشد خلق دولة رادعة وقوية ومهابة إزاء الداخل، يخلق دولة رخوة إزاء الخارج، فإن الفساد يخلق مجتمعات رخوة وعاجزة إزاء سلطتها وإزاء مكوناتها، كما إزاء عصرها. وفي ظل هذه الأوضاع بات العالم العربي، بحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية (2009) في المكانة قبل الأخيرة (قبل أفريقيا جنوب الصحراء) في مؤشرات الحكم الخاص بحكم القانون، وثمة واحد من كل خمسة أشخاص فيه تحت خط الفقر (دولاران يومياً)، بمعدل 20 في المئة من السكان! وثمة بطالة متزايدة بحجم 14 في المئة، ومعدل الأمية عند البالغين تبلغ 28 في المئة، وكلها معدلات عالية جداً. أيضاً، ثمة 9 في المئة من حجم الناتج الإجمالي العربي يتأتى من الصناعات التحويلية، وثمة 15 في المئة فقط، يعملون في مجال الصناعة من مجموع القوى العاملة، والعالم العربي يصرف أقل من واحد في المئة من ناتجه السنوي فقط على البحث العلمي (بحسب التقرير الاقتصادي العربي لعام 2008)، وهي كلها معدلات جد متدنية، تبين كم أن العالم العربي يفتقر، للتعليم والتحديث وللحكم الرشيد. لذا فإذا كان ثمة في التسلط استباحة، ففي الفساد أيضاً، وكان الكواكبي (في كتابه: «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»)، قبل قرن ونيف من الزمان، تحدث عن الارتباط الوثيق بين الاستبداد والفساد، معتبراً أن الفساد السياسي أصل الداء، وأن أي إصلاح قبل الإصلاح السياسي لن يجدي نفعاً.