إلى «باب الشرقي» قال سائق الحافلة، فهمس الشيخ ذو القبعة الحمراء الذي شارك للتو في تظاهرة لصاحبه: «هل معك أجرة النقل لكلينا؟». المشهد: «ساحة الفردوس» وسط بغداد منتصف النهار حيث أنهى للتو عشرات الشيوعيين وبعض المنظمات تظاهرة احتفالية في ذكرى ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، رفعوا خلالها صور الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، فيما كان صف طويل من مئات السيارات يتوقف منذ ساعات للتزود بالوقود. الوقوف تحت شمس تموز حيث ترتفع درجات الحرارة الى أكثر من 55 أشبه بالتعذيب الاختياري. يصيح رجل الشرطة الذي يحاول تسريع وتيرة تفرق المتظاهرين: «هيا يا إخوان تفرقوا وارحمونا من هذا القيظ السام»، فيرد أحد الشيوخ بتحد مخاطباً بعض المصورين الذين يحاولون إنهاء تغطيتهم للتظاهرة قبل إصابتهم بضربة شمس: «لا بد أن يحدث التغيير هذا الوضع لا بد أن يتغير»، فيرد الشرطي: «كما تشاء يا حاج لكن بعيداً من هنا». في الجانب الآخر من ساحة الفردوس حيث محطة تعبئة الوقود، كانت تظاهرة من نوع آخر. سائقو السيارات الذين أرهقتهم الحرارة بانتظار التزود بالوقود كانوا يوجهون الشتائم لم يسلم منها سياسي، منذ تأسيس الدولة العراقية. لكنه هدأ ليقول: «هل يعقل أن يقف بشر في هذا الجحيم لساعات من أجل 40 ليتراً من البنزين؟ الكارثة أن وزير النفط أصبح وزيراً للكهرباء أيضاً». وكانت وزارة النفط أعلنت أن عملاً تخريبياً ضد أحد أنابيب نقل النفط تسبب في أزمة الوقود منذ بداية الشهر، فيما غاب التيار عن بغداد بالتزامن مع موجة الحر. عشرات الصبية على هامش التظاهرتين انقسموا بين من يبيع البنزين ومن يبيع قناني الماء البارد. توقف شخص وسكب على رأسه ماء بنشوة وجزع وهو يردد ناقماً على المتظاهرين الذين اغلق الشارع بسببهم «ابتليت بالعمل في شارع السعدون. كل يوم اضطر للمشي مسافات طويلة لأن تظاهرة أو مسيرة للزوار في المناسبات الدينية تغلق الشارع». الصيف القاسي والسياسيون المختلفون، والحكومة التي فشلت في توفير الخدمات، والإرهابيون الذين يلاحقون الأهالي، «انها مؤامرة»، قال شيوعي مخضرم كان يرفع علم المطرقة والمنجل، «لن نسكت». كان أصحاب السيارات المتوقفة في الطابور ترجلوا واندمجوا في تظاهرة «14 تموز». الثورة التي يختلف المؤرخون في توصيفها ينفرد زعيمها عبد الكريم قاسم بتعاطف الشارع. الرجل كان صديقاً للفقراء، يذكر العراقيون سكنه في بيت صغير متواضع في الشارع الذي أطلق عليه لاحقاً اسم «شارع الزعيم» في جوار ساحة الفردوس. ويقارن الناس زهده الشخصي مع جشع زعماء العراق بعده، وصولاً الى سياسيي ما بعد 2003 الذين يتداول الشارع روايات عن الأموال التي اكتنزوها في فترات وجودهم القصيرة في الحكومة. يتبادل متظاهرو طابور البنزين معلومات يتداولونها كمسلمات ولا يعرف أحد كيف حصلوا عليها: الوزير الفلاني الذي كان حتى عام 2003 لاجئاً بسيطاً في دولة أوروبية يتلقى المساعدة الإنسانية من دافعي ضرائبها، أسس شركة إقليمية عملاقة سجلت بأسماء أقاربه لتجارة الأدوية. وآخر أسس شركة لنقل النفط. وثالث حصل على عقد حصري كموزع رئيسي لأهم شركة للاتصالات. «حرامية»، تنطلق الكلمة مرات من فم حسين عبد الحسن الكعبي وهو يتابع: «فلان اشترى عمارة في دبي، فلان أسس منتجعات سياحية في مصر، فلانة تمتلك أكبر أسطول للشحن البري». و«فلان» و«فلانة» هم مسؤولون سياسيون ونواب ووزراء يتصارعونه اليوم للاحتفاظ بمناصبهم أو الحصول على مناصب جديدة ما يعيق تشكيل الحكومة منذ أربعة شهور. قال أحدهم: «تصور أن نائباً يخرج على الفضائيات يومياً يلعن الاحتلال ويدعي الوطنية وهو أكبر متعاقد مع الجيش الأميركي لتوريد الوقود؟». «حرامية» يردد الجميع، يجيب منتصر أحد متظاهري الحزب الشيوعي الذي كان يتابع حوار السائقين بسخط وبصوت مرتفع: «ومن انتخب هؤلاء ورفعهم الى كراسي الحكم؟ أليس انتم يا من تقولون ما لا تفعلون. هل أدمنتم دور الضحية وشفقة الخارج؟ لماذا لم تبادروا الى التغيير عندما كان باستطاعتكم؟». والحزب الشيوعي الذي ينظم منذ سنوات تحركاً جماهيرياً للاحتجاج على الأوضاع لم يفز في الانتخابات الأخيرة بأي مقعد برلماني، فيما تشير الاحصاءات الى أن 70 في المئة من النواب السابقين أعيد انتخابهم في البرلمان الجديد. كان العجوز ذو القبعة الحمراء يتصبب عرقاً حين سمع سائق الحافلة يقول للمتظاهرين: «باب الشرقي... باب الشرقي» قال لصاحبه وهو يسأله إن كان يملك 500 دينار في جيبه: «في التظاهرات التي تنفذها الأحزاب المتنفذة تهيئ تلك الأحزاب حافلات مجانية لنقل المتظاهرين وبعضها يدفع مكافآت للتشجيع على التظاهر. أما نحن فمتطوعون مخلصون ولهذا لا نملك أجرة النقل».