لو استمع صناع القرار السوري (وهم واحد) إلى ذلك الصوت العميق داخل المواطنين السوريين، أطفالهم قبل شبابهم، وشبابهم قبل نسائهم وشيوخهم، لخرجت سورية من هذه الأزمة في أيامها الأولى، لكن صانع القرار أبى وتجبّر. أتيح لي أن أعرف سورية في سبعينات القرن الماضي، حين كان الوعي يتفق شيئاً فشيئاً، واستمرت علاقتي مع أصالتها إلى العام 2010. كان الشعب السوري – على رغم جميع النكبات التي مُني بها بسبب صانع القرار - متصالحاً مع ذاته. لم يكن هناك وقتها فرز طائفي وعرقي ومذهبي. كان هناك مواطن عربي سوري، وإضافة كلمة عربي قبل سوري، هي من لزوميات ركوب المد القومي، الذي لم يكن قد تلاشى آنذاك. كان السوريون الأكراد يجيدون اللغة العربية ويحفظون التراث العربي بكل تفرعاته (محمد كرد علي مثالاً). والمسيحيون بكل طوائفهم يحتفلون بعيدي الفطر والأضحى. المسلمون يقفلون متاجرهم يوم الجمعة، وكذلك يفعل المسيحيون يوم الأحد. المساجد تجاور الكنائس، إن لم يكن المسجد ملاصقاً الكنيسة، كما في «باب توما» بدمشق، وكذلك في مدينة حلب الشهباء حيث تتجاور الكنائس والمساجد، وهي المدينة المتصالحة مع ذاتها، إلى أن دمرتها براميل الفرس والروس. لو قدر للوعي السوري أن يتعمق في العقود الأربعة الماضية، لأصبحت سورية نموذجاً للتعايش في الشرق الأوسط، لكنه خوف الأقليات عندما تسيطر على الحكم، فالأقليات إن تسلمت الحُكم تعزز البعد الأمني للنظام على ما سواه. الكثير يقول انه يُحسب لحزب البعث بشقيه، العراقي والسوري، انه أحل الاستقرار في دمشق وبغداد لأربعة عقود، وهو أمر صحيح إذا ما قورن بالفوضى التي تعصف بالوطن العربي الآن، لكن هذا الكثير، لم يدرك أن الاستقرار لم يكن للتنمية والتطور الاجتماعي والاقتصادي، بل لإبقاء الحاكم سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب. القمع يوقف التنمية، ويجعل الإنسان ظلاً لجدار ثابت. في عهد الأسد الأب، أي في بدايات مرحلة تأسيس الدولة القمعية، كان الزوج يشك في زوجته، والأخ في أخيه والضابط في جنوده، لكن التعايش بين الأديان والأعراق والطوائف بقي قائماً، رغم أنف أجهزة الأمن. كان صاحب القرار حينها يلعب على كل الحبال، إلى أن مكّن المقربين والخاصة من مفاصل الدولة، فأصبح حامي الأقليات. لم تكن هناك – في واقع الأمر - أقليات. كان الشعب السوري – ولا يزال – واحداً. أكد صانع القرار السوري في أكثر من مناسبة ومنعطف سياسي، أنه حامي حمى مسيحيو سورية، وهو يدرك أن هناك، في إيطاليا، من يحميهم. المسيحيون يعرفون أن لا أحد يحميهم سوى انتمائهم الخالص والنقي للتراب السوري، والإيمان المطلق بأنهم جزء من النسيج الوطني السوري. وهم يعرفون أن السوريين وقفوا صفاً واحداً في وجه المعترضين على تعيين فارس الخوري (مسيحي) رئيساً للوزراء ووزيراً للأوقاف عام 1944. المسلمون وقتها وقالوا للمعترضين بصوت واحد: «نحن نأتمن الخوري على أوقافنا أكثر من أي شخص آخر». كل سوري شريف، أياً كان عرقه أو دينه، يعلم أن التعايش السلمي، هو المخرج الوحيد، لكن صانع القرار وهو واحد عندما عجز عن التواصل مع الشعب إلى حلول مقنعة (علماً أنه لم يحاول منذ اليوم الأول للأزمة العمل على حلها سلمياً. أبى وتجبر). ذهب إلى تفتيت اللحمة الوطنية من خلال تصوير الصراع الجاري في سورية، على انه صراع عرقي طائفي ديني. العرب في مواجهة الأكراد. الشيعة في مواجهة السنّة. المسلمون ضد المسيحيين. مع ذلك وبعد مرور أكثر من خمسة أعوام على الصراع السوري، لا يزال السوريون بكل فسيفسائهم الجميلة، يقاومون موت «السوري» بداخلهم. عندما تقاسمت المنافي السوريين، أبقى هؤلاء على هويتهم السورية. لأنها أعمق من حاكم أحمق. حاول الأسد (الأب والابن) تطبيق مقولة: فرق تسد وتعميقها، لتكون حرزاً للحاكم، ربما زاد الأسد الابن على ما قام به والده في هذا الشأن، أن بدأ يمزق القبائل، ليس هذا فحسب، بل أصبح لديه مقربون من القبائل، ليدلوه على نقاط الخلاف بين هذه القبيلة وتلك. لم يعلم الأسد الابن أن هذه القبائل انصهرت في نسيج الوطن، متجاهلة خلافاتها الماضية، ربما لم يعلم – أيضاً – أن هذه القبائل ليست تلك التي كانت في مطلع القرن الماضي. أبناء قبائل اليوم أطباء ومهندسون ومحامون وعلى درجة عالية من العلم والمعرفة، ما زادهم تمسكاً بالوطن لا بالحاكم. في مدينة القامشلي، هذه المدينة المذهلة، عشت لسنوات. كنت أسكن في غرفة لدى عائلة مسيحية. الأب كان أحد أهم رجال الدين المسيحي في المدينة، هذه العائلة المسيحية كانت إذا دخل رمضان لا تطبخ في النهار. في يوم سألت جاري رجل الدين المسيحي: لماذا لا تطبخون في النهار، فرد: «ولدي حرام نطبخ ويشمون الجيران رائحة الطبخ وهم صائمون». هذه عظمة مدينة القامشلي التي يتقاسمها العرب والأكراد والمسيحيون، وهذه هي عظمة التلاحم السوري، العظمة التي وقفت أكثر من خمسة أعوام وهي تقاوم الكسر. كان السوريون، كل السوريين، يتحولون إلى أعمدة خراسانية ثابتة عندما يسمعون النشيد الوطني لبلادهم، الأسد الأب بدأ حكمه بدهاء سياسي، إذ لم ينصب نفسه رئيساً فور نجاح انقلابه العسكري المغلف، بل بقي أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي، لكنه تمكن من الإمساك بجميع خيوط الحكم وأصبح رئيساً للبلاد بمرتبة: «أمين عام حزب البعث العربي الاشتراكي». ذكاء الأسد يكمن في انه يعلم أن الدستور السوري ينص على أن يكون الرئيس سنياً، لهذا اختار مسمى الأمين العام، مع العمل على تعميق سلطته. ولتعميق هذه السلطة وترسيخها خاض مع الرئيس أنور السادات حرب أكتوبر 1973، وقال الرئيس المصري أنور السادات بعد ذلك ما قاله عن تلاعب الأسد وخداعه له، كما فضح العراقيون مناورات الأسد لوقف الحرب بمعزل عن شركائه. هذا لا يعني أن السادات ليست لديه مآرب غير معلنة لخوض حرب أكتوبر. لعل الشخص الوحيد الذي يمتلك إجابة على هذا الغموض، هو: هنري كيسنجر. بعد أن صور الأسد حرب أكتوبر 1973 على أنها انتصار على العدو الصهيوني وبدأ يكثر من نشر صوره وهو يرتدي زي الدفاع الجوي (حيث كان يعمل)، ذهب إلى رجل دين شيعي في لبنان وصادق على أوراق اعتماده رئيساً للجمهورية السورية، بعدها غيّر الدستور. هنا مكمن ذكاء الأسد الأب، لكن غباءه، جاء بعد وفاته، حين غيّر الدستور في 7 دقائق، ورقي الأسد الابن إلى رتبة فريق ثم عين رئيساً لسورية كل هذا وهو ميت، هذا كله لم يكن ليحصل لولا تحكم الأسد بالدولة حتى بعد موته. السوريون يعرفون أن الأسد لا يحكم باسم الطائفة العلوية، لأنهم أدركوا باكراً أن الأسد (الأب والابن) يحكمان باسم العائلة. هم يعرفون – أيضاً – أن ثروات سورية ودخلها القومي تكدست في حسابات آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش، بينما تحول الفقر في المناطق العلوية إلى فاقة، لهذا استمر التعايش بين الطوائف والأقليات والعرقيات في سورية. عظمة السوريين من أمثال الأتاسي والقوتلي والجابري وغيرهم، أنهم أسسوا لهذه الصلابة الوطنية في سورية، وقد تسنم الرئاسة في سورية عرب وأكراد وتركمان بل وترك، ليس من بينهم الأسد الأب وأبنه، لهذا أصبحت سورية حائط صد في وجه كل من أراد بلحمتها الوطنية سوءاً. أضف إلى هذا السبب في صلابة النسيج الاجتماعي السوري، سبب آخر: هو أن التعليم في سورية وقتها كان يتدرج بعقل الطفل السوري إلى أن يكمل بناءه في نهاية المرحلة الثانوية، أي في قمة مرحلة المراهقة، ثم يكمل العقل بناء ذاته في المرحلة الجامعية، ليكون الإنسان بعد تخرجه في الجامعة مرادفاً موضوعياً للإرث الحضاري السوري، أما بعد تمكن الأسد الابن من الحكم، فأصبحت العملية التعليمية في سورية توجه (لا تبني) العقول نحو الايديولوجيا البعثية بعد تحريفها، من دون أن تعي تلك العقول الملقنة المعنى الحقيقي لهذه الايديولوجيا، المهم لدى الحاكم أن يردد أطفال سورية كل صباح: طلائع... بعث... عروبة. * صحافي سعودي من أسرة «الحياة»