البريد الالكتروني الذي تمّ تعميمه من جانب «ناشونال بورتيت غاليري» في لندن أطلق حملة لجمع مبلغ مئة ألف جنيه استرليني للمساعدة في إتمام صفقة شراء لوحة نادرة تعود الى القرن الثامن عشر وسيراها المهتمون للمرة الأولى. اللوحة تخص شخصية افريقية مسلمة بارزة، هي أيوبا (أيوب) سليمان ديالو، الذي كان خطف من بلاده على يد تجار الرقيق في القرن الثامن عشر واقتيد الى ولاية ميريلاند. هناك تم بيعه كرقيق للعمل في مزارع التبغ، قبل أن يساعده محام ورجل بعثة تبشيرية بريطاني على السفر الى انكلترا حيث تميّزت شخصيته، حتى صار جزءاً من الاوساط الأدبية والارستقراطية، وعاد الى بلاده بعد أن تمّ تحريره من خلال جمع المال من طريق التبرعات. اللوحة التي رسمها فنان انكليزي فقدت لسنوات طويلة وساد اعتقاد بأنها ضاعت الى الأبد، لكنها ظهرت في سوق مزاد اللوحات أواخر عام 2009، معروضة للبيع في أي لحظة، فالموعد النهائي لتقديم العروض هو أواخر الشهر المقبل، وهذا ما لا يريده البريطانيون خوفاً من نقلها خارج البلاد، فهي جزء من تاريخهم المعقّد مع تاريخ العبودية والتنوع الثقافي. تقول الدعوة القادمة من احدى أهم صالات الفنون العامة في لندن، ان بقاء اللوحة يتطلب تأمين المبلغ المتبقي من أكثر من نصف مليون جنيه استرليني تم توفير معظمه من بعض الجهات المانحة للفنون، مثل «صندوق الفنون» و «صندوق المحافظة على التراث». ويغطي المبلغ اضافة الى سعرها المطروح في السوق، تكلفة ترميم اللوحة وحفظها، وجولتها في أنحاء بريطانيا للعرض. واللوحة الآن في حالة إعارة وعرض موقت في إحدى غرف الغاليري حتى نهاية الشهر الحالي. و «ناشونال بورتيت غاليري» هي صالة فنون تختص بالأعمال الفنية التي تركز على بورتريهات مشاهير البلاد والمنفذة بكل الخامات، وهي بهذا المفهوم أقرب إلى مركز وطني توثيقي بصري للأفراد المؤثرين في تاريخ هذا البلد، في شكل أو في آخر. تأتي أهمية لوحة أيوبا سليمان ديالو (1701-1773) الذي عرف في بريطانيا باسم جوب بن سلمون، أنها أول عمل فني بريطاني يتعامل مع انسان أسود من منطلق أنه يحمل قيمته الشخصية بنفسه، لا كما ظهر عليه السود الآخرون في الأعمال الفنية المبكرة: رقيق يكملون أبهة مالكيهم البيض. وتعود أصول أيوبا سليمان ديالو الى عائلة بارزة من مشايخ الاسلام في غامبيا غرب افريقيا. كان متعلماً تعليماً عالياً ومن عائلة ثرية ومؤثرة، ويجيد العربية بالاضافة الى لغته المحلية. اعتقلته مجموعة تخطف الأفارقة للمتاجرة بهم، في سياق ما عرف بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، بتجارة العبيد الواسعة عبر المحيط الأطلسي، ضمن «مثلث تورط أخلاقي» ربط افريقيا ببريطانيا من خلال أسطولها البحري، بأميركا ومزارع القطن والتبغ حيث كان الطلب على الأيدي العاملة كبيراً. الغريب ان ديالو كان تاجراً للعبيد ايضاً، وفي أثناء رحلة في نهر غامبيا لإتمام صفقة بيع، خطف، وكان في التاسعة والعشرين من عمره. نقل الى ولاية ميريلاند من دون أن يصدق أحد من البحارة أو التجار أنه ابن عائلة مرموقة، وهو أقرب الى الأمير في منطقته. تم بيعه لمالك مزارع تبغ، الا أنه لم يطق العمل المرهق فيها ولا الاساءة اليه أثناء أدائه صلاته. هرب، كما فعل كثير من العبيد آنذاك، ثم ألقي القبض عليه وسجن، وعندما أصرّ على أنه يجيد الكتابة سمح له بكتابة رسالة الى أبيه باللغة العربية، ومن هنا بدأ من حوله يصدقون كلامه، ومن بينهم محام ورجل بريطاني تبشيري اسمه توماس بلوويت، الذي جذبه كون هذا العبد متعلماً ومطلعاً على أمور كثيرة، على عكس غالبية العبيد الذين كانوا يخطفون من القرى والأماكن الفقيرة. هكذا، أنقذته اللغة والكتابة والحرف من أسر العبودية. اصطحب بلوويت أيوبا سليمان ديالو الى لندن حيث أسكنه معه، الى أن انتقل الى مبنى «أفريكا هاوس». وفي لندن تعرّف إلى جمع من الأرستقراطيين والباحثين الأكاديميين الذين استقبلوه بحماسة وعاملوه على أنه «جنتلمان افريقي»، وهو أمر غريب في القرن الثامن عشر، عكس إعجاب النخبة به وبقدرته على الحديث عن حكايات حول افريقيا. كذلك شدّهم تعبيره عن قناعاته الدينية وعن الاسلام. ترافق كل ذلك مع سلوكه وأخلاقياته التي كانت تدلل على خلفية اجتماعية متميزة، وعن ذكائه أيضاً، اذ تعلم كتابة الانكليزية وقراءتها أثناء إقامته في لندن. ترجم مخطوطات باللغة العربية لجامع التحف والمخطوطات سير هامز سلون، الرجل الذي كونت مقتنياته ما عرف بعد ذلك بالمتحف البريطاني. وقد دفع إعجاب سلون به لأن يرتب له لقاءً مع الملك جورج الثاني والملكة كارولاينا في القصر الملكي. وأهّله مجمل الاهتمام من نخبة المجتمع، لأن يكون عضو جمعية «جنتلمانز سوسايتي أوف سبليدنغ» الخاصة برجال النخبة. في العام 1734، صدرت سيرته بتحرير من توماس بلوويت الذي رافقه في سفره، وكان عنوانها «مذكرات حياة جوب». ويرى دارسو التاريخ البريطاني أن المذكرات ساهمت في خلق تفهم شعبي لثقافة الغرب الافريقي، الهوية السوداء، والدين الاسلامي. وعلى رغم الاحتفاء والمناصرة اللذين أحاطا بهذا الرجل ومصيره الغرائبي، الا أنه في النهاية فضّل العودة الى بلاده وناسه في غامبيا، هناك، حيث استمر في اقتناء العبيد في بيته «بحجة أنهم غير مسلمين». لكنه استمر أيضاً في التوسط لدى شركة «رويال أفريكا» المشهورة بتجارة العبيد وغيرها، لافتداء المسلمين الذين يصلون الى بريطانيا وتحريرهم من العبودية. اللوحة والرسام أنيطت مهمة رسم بورتريه النبيل الافريقي المسلم بالرسام المعروف ويليام هُوار الذي كان مقيماً في مدينة باث الانكليزية ولديه استوديو. اشتهر هذا الفنان برسم الشخصيات والعائلات العريقة، وأصبح بين أشهر فناني عصره في فن البورتريه الذي استخدم فيه تقنيتي الزيت والباستيل. أنجزت لوحة أيوبا سليمان ديالو عام 1733، وهي زيت على قماش بحجم 30×25 إنشاً، وتظهر نصف جسده. وقد اصرّ على أن يظهر بملابسه الافريقية ويعلق حول رقبته نسخة من القرآن الكريم تدلت على صدره. كان ذلك شرطاً للجلوس أمام الفنان ليرسمه، هو الذي عرف عنه رفضه لفكرة الرسم والصور، ربما من منطلق ديني، حتى أن بلوويت كاتب سيرته يذكر في الكتاب، اقناعه بفكرة الرسم بأن قال له: «اننا»، أي البريطانيين، «لا نعبد الصور». اللوحة غير موقعة من الفنان هُوار، إنما نقرأ خلفها إسمه الكامل. ويقول الخبراء ان وصف اللوحة كما ورد في كتاب بلوويت ينطبق عليها، كذلك تمت مقارنتها بلوحتين من الحفر له شخصياً استوحتا اللوحة الأصلية، استخدمت الأولى في كتاب المذكرات، واستخدمت الأخرى في موضوع ظهر في صحيفة «جنتلمان ماغازين» عام 1750. وبقيت اللوحة ضمن مقتنيات العائلة نفسها منذ العام 1840 على الاقل، وقد ظن المهتمون أنها ضاعت الى الأبد، حتى ظهرت في سوق المزادات العام الماضي عبر مؤسسة كريستيز. النداء للحفاظ على اللوحة، ساندته مجموعة من الشخصيات العامة، من بينها التشكيلي فيصل عبدالله (بريطاني من اصل كاريبي اعتنق الاسلام قبل عشرين سنة)، البارونة لولا يونغ، والإعلامية من أصل سوداني زينب بدوي. حملة «تحرير» بعد ثلاثة قرون بقي ديالو فترة من الزمن في لندن مهدداً بالبيع مرة اخرى قبل أن يتم جمع مبلغ 40 جنيهاً استرلينياً دفعت لمالكه الأصلي، بمبادرة من شخصيات مرموقة، هذا بالإضافة الى 20 جنيهاً استرلينياً لتغطية مصاريف السفر من أميركا عبر البحر وانتقاله الى لندن وإقامته فيها. والآن، وبعد نحو ثلاثمئة سنة، يتردد اسم أيوبا سليمان ديالو مرة اخرى في المدينة نفسها التي تريد أن تجمع المال لفك أسرٍ من نوع مختلف، يحرره من تجار اللوحات. فهل سيفكر ثري عربي أو مؤسسة عربية أو إسلامية بإنقاذه هذه المرة يا ترى، هو الحيّ الآن على شكل لوحة نادرة تحفظ للأجيال في صالة فنون عريقة؟ أم سيترك مصيره بين أيدي أحفاد الانكليز بمفردهم الذين أنقذوه في المرة الأولى وحرروه من عبوديته وأعادوه الى أهله سالماً.