يمكن لزائر جوهانسبورغ لمناسبة مونديال كرة القدم أن يعيش تاريخ جنوب أفريقيا ونضال شعبها بالصوت والصورة، إذا قصد متحف التمييز العنصري وجال في أرجائه وعاين محتوياته. يختصر المكان الذي أفتتح في كانون الأول (ديسمبر) عام 2001، بانوراما بلاد «قوس قزح»، مقدماً العبور من التراجيديا إلى البطولات، ومن الاضطرابات إلى السلام والوئام، ومن الطغيان إلى الحرية. ملحمة كلّفت تضحيات كثيرة وسنوات من الكفاح. خلف منتزه وحدائق «غولد ريف سيتي» المشرفة على أحياء فقيرة في المدينة وعلى بُعد دقائق من «ساندتون سنتر» مركز المال والأعمال في جوهانسبورغ، يطالعك مبنى خرساني ضخم يعبّر عما يحتويه. ويلفت نظرك ذاك الواقع المرير من خلال لوحة إرشادية عند مدخله. فالباب الرئيس المؤدي إلى البهو الكبير والردهات والأقسام، لا يختلف عن أبواب المعتقلات المحصنة. هناك ممران واحد مخصص للبيض وآخر للملونين، وكأنك لا تزال في عهد الفصل العنصري! هكذا تطغى الأجواء القاتمة، وتتخيل نفسك في أحد شوارع جوهانسبورغ أو مدن جنوب أفريقية أخرى تعيش الاضطرابات والتظاهرات. في قاعة ضخمة، نصبت سقالات على شكل أقفاص وزنزانات احتوت على صور وبطاقات وأوراق شخصية لمعتقلين، أشهرهم أعضاء لائحة ال156 الذين أوقفوا في كانون الأول 1956. إنه تمهيد مناسب تعبر من خلاله إلى أجواء هذا البلد في العقود الماضية، ونضال مواطنيها الأصليين لنيل حقوقهم. «تقرأ» يوميات السجناء من خلال أشغالهم اليدوية ورسوماتهم ومقتنيات شخصية ومحاضر التحقيق وقرارات الحكم والعقوبات. تطالعك صور الأمكنة وخرائط جوهانسبورع في القرن الثامن عشر وأول منجم للذهب وأحوال عماله وظروف عملهم الصعبة، وصور تؤرخ التظاهرات والاعتقالات والاضطرابات ومحاولات الهروب والتنكيل والقتل، ونماذج لغرف السجن الانفرادي وأصفاد وأسلحة وذخيرة وشظايا وشاحنة شرطة مدرعة... ولا يكتمل المشهد من دون أفلام وثائقية وخطب المناضلين وفي مقدمهم نيلسون مانديلا، ومراحل المفاوضات وصولاً إلى السلام المنشود. وتشرف وزارة التربية في جنوب أفريقيا على إدارة المتحف، وتدرج زيارته على طلابها من ضمن منهاج دروس التاريخ والتربية المدينة. ويبلغ معدل زواره 800 زائر يومياً، لكن الرقم ارتفع إلى حوالى 6 آلاف في أيام المونديال. وضمن المكان الرحب، جناح كبير خاص بمانديلا القائد والرفيق والمحاور والمُعتقل ورجل الدولة الذي يحتفل بعيده ال93 في 18 الجاري. سيرة كفاح طويل بدأت من حق المطالبة بحرية التعبير والمساواة في الحقوق المدنية، إلى الاعتقال مدة 27 سنة في جزيرة روبن، حيث لم يسمح له إلا بكتابة رسالة واحدة إلى زوجته لا تتعدى ال500 كلمة كل ستة أشهر. مانديلا الثائر على نظام التمييز العنصري، خرج إلى الحرية في 2 شباط (فبراير) 1990. ومن كان يصفه ب «الخارج عن القانون» بات يسعى للقائه، حتى أن مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، أهدته سيارة مرسيدس حمراء لتسهيل تنقله، وهي محفوظة في المتحف. وأنت مسترسل في متابعة تسلسل الأحداث ربما تلاحظ أن الوقت داهمك، فتسارع للخروج وأنت تدرك أن أشياء أخرى مهمة قد فاتتك. لكن الأجواء المؤثرة ترافقك حتى الأمتار الأخيرة، إذ «زرعت» على جوانب ممر البوابة أحواض غرست فيها أعواد بألوان «قوس قزح» علم البلاد، تعني أنك كائن بشري مهما كان لونك. أما متجر بيع التذكارات في آخر الرواق، فيحملّك ما ترغب في اقتنائه من تاريخ البلاد: كتباً وأشغالاً تراثية وأقراصاً مدمّجة وصوراً وقمصاناً وأكياساً مزدانة بعبارات تنبذ التمييز العنصري.