بعد مرور أكثر من عقد على ضغوط الدول الغربية على إيران، نجحت الدبلوماسية الدولية في إقناع طهران بتوقيع الاتفاقية النووية أو ما بات يعرف (بخطة العمل المشتركة الشاملة– JCPOA)، والتي تضع الضوابط اللازمة على البرنامج النووي للحؤول دون حصول إيران على السلاح النووي لفترة عشر سنوات اعتباراً من تموز (يوليو) 2015. كان من المتوقع أن تدخل إيران بعد توقيع الاتفاقية مرحلة جديدة في علاقاتها مع الدول الغربية، وخصوصاً مع الولاياتالمتحدة، كما كان من المتوقع أن تبدي حكومة الرئيس حسن روحاني قدراً عالياً من التعاون والانفتاح في علاقاتها مع الدول الخليجية، من أجل محو الآثار السيئة التي خلّفتها السياسات المغامرة التي اتبعها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. كان الرئيس روحاني، وعلى عكس ما فعل سلفه، قد سعى إلى حل المسألة النووية من أجل الانفتاح على العالم ومعالجة الأوضاع الاقتصادية الإيرانية المتعثرة منذ عقود. وأجمعت آراء المحللين على أن إيران ستكون بعد توقيع الاتفاقية النووية جاهزة للدخول في مرحلة جديدة مع جيرانها في الخليج، وأن تعمل على طمأنتهم بأن تنامي علاقاتها مع الولاياتالمتحدة وأوروبا لن يكون على حساب الأمن والاستقرار في المنطقة، وأن تبدد بالتالي الهواجس التي عبر عنها قادة دول مجلس التعاون الخليجي في قمتهم مع الرئيس باراك أوباما في كامب ديفيد. كان من المفترض أن يؤدي حل المسألة النووية عبر اتفاقية توقع عليها كل من إيرانوالولاياتالمتحدة بعد أربعين سنة من العداء، إلى فتح صفحة جديدة من التعاون السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى معالجة المسائل الأمنية الإقليمية، بما فيها الحرب على الإرهاب. بعد سريان مفاعيل الاتفاقية ورفع العقوبات الدولية عن إيران، عادت لترتفع في طهران الشعارات الداعية إلى التمسك ب (الاقتصاد المقاوم)، والذي يؤمّن المناعة لإيران من النفوذ الغربي. وتشير الأجواء الراهنة إلى أن التيار المتشدد بقيادة المرشد علي خامنئي لا يريد التخلي عن سياسة المواجهة مع الغرب، ومع أميركا تحديداً. يبدو بوضوح بعد إجراء الانتخابات العامة في إيران والتي سجل فيها الإصلاحيون والمستقلون بقيادة الرئيس حسن روحاني، مدعوماً من علي أكبر هاشمي رفسنجاني، تقدماً واضحاً في مجلسي النواب والخبراء، بأن المرشد خامنئي قرر الانقلاب على حكومة روحاني، وبأن مفاعيل التفويض لإنجاح المفاوضات النووية قد انتهت إلى غير رجعة. كما يبدو أن المرشد يفضل العودة إلى النهج المتشدد في علاقات إيران الخارجية على المستويين الدولي والإقليمي. ومن الطبيعي أن يتسبب هذا الانقلاب على حكومة روحاني بحركة ارتدادية تبدل أو تؤخر لسنوات النتائج المرجوة من توقيع الاتفاقية النووية وإنهاء نظام العقوبات. كان الرئيس روحاني قد عقد الآمال على أن تحقق الاتفاقية تدفق استثمارات خارجية إلى إيران بقيمة خمسين بليون دولار، بالإضافة إلى تحرير ما يقارب مئة بليون دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في المصارف الدولية، وأن يحقق الاقتصاد الإيراني نمواً يصل إلى ثمانية في المئة. لكن، لم يتحقق مثل هذه النتائج، وهذا ما دفع حاكم المصرف المركزي الإيراني ولي الله سيف إلى القول: «اعتقدنا أننا سنجدد علاقاتنا مع المصارف الدولية فور توقيع الاتفاقية». واستغل مستشارو السيد خامنئي عدم تدفق الأموال المجمدة لاتهام روحاني بالوقوع في الفخ الذي نصبه له الأميركيون. لكن التفسير الواقعي الذي يقدمه الخبراء يقول بضرورة قيام المسؤولين الإيرانيين بإجراء مباحثات مع المصارف الكبرى حول حجم وتوقيت إجراء التحويلات المالية الكبيرة، لأنه لا يمكن معظم البنوك الكبرى التخلي عن موجودات تزيد عن مئة بليون دولار خلال أسابيع أو أشهر. وتفيد التقارير الإعلامية الواردة من طهران بأن السيد خامئني يعمل جاهداً للجم الحركة الانفتاحية التي يقودها روحاني، وهذا ما يؤشر إليه الإلغاء المفاجئ لعدد من الزيارات التي كان روحاني قرر القيام بها لبعض الدول الأوروبية ومنها بلجيكا والنمسا خلال الشهر الماضي من دون أي تفسير للإلغاء. يحاول ممثلو الحكومة الإيرانية التعويض عن النتائج المرتقبة لتلك الزيارات من خلال دعوة رجال الأعمال والشركات إلى طهران، ويتردد هؤلاء في ذلك بحجة أن الزيارات لن تحقق النتائج المرجوة، حيث يقوم رجال خامنئي بتعطيل وعرقلة محاولاتهم لإجراء مباحثات مثمرة مع الشركاء الإيرانيين. يرفض الرئيس روحاني التخلي عن برنامجه الانفتاحي، وهو يتسلح في مواجهة الضغوط بالنتائج التي أفرزتها الانتخابات وبما يعبر عنه الرأي العام الإيراني من دعم لخطته. لكن ذلك ليس كافياً لمواجهة دعوات خامنئي واتباعه للتمسك بالاقتصاد المقاوم ولمواجهة كل عناصر القوة التي يملكها المرشد، والمتمثلة بالجيش والحرس الثوري الذي يسيطر على معظم القطاعات الاقتصادية. ولا يمكن في هذا السياق تجاهل ما تقوم به أيضاً الأجهزة السرية وعملاؤها من أجل التخريب على الخطط والأوامر الصادرة عن روحاني وحكومته. ويتحدث بعض التقارير عن تكليف خامنئي آلاف العملاء السريين من أجل السيطرة على وسائل الإعلام، وتوقيف عدد من الإعلاميين الإصلاحيين أو الناشطين الاجتماعيين وحتى بعض العارضات والممثلات لظهورهن من دون حجاب. لم يخسر خامنئي أي مواجهة خاضها في الصراع على السلطة منذ صعوده إلى موقعه. كان آخر هذه المواجهات مع الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وقبلها مع الرئيس محمد خاتمي، الذي ما زال ممنوعاً من الظهور في الإعلام. لكن، يبدو أن المرشد يستعجل لمصلحة التيار المتشدد في المواجهة الراهنة، ويعود الأمر إلى شعوره بتآكل الأكثرية المتشددة في المجلس حيث هبطت إلى ستة في المئة أي نصف ما كانت عليه في انتخابات 2012. ويستفيد روحاني في هذه المواجهة مع المرشد من دعم هاشمي رفسنجاني الذي يلقب بصانع الملوك في إيران، والذي قال بعد التجارب الصاروخية الأخيرة «من الأفضل لإيران فتح قنوات الحوار بدل إجراء التجارب الصاروخية». واستوجب قوله هذا رداً جارحاً من خامنئي بقوله «إن الذين يقولون إن المفاوضات وليست الصواريخ هي التي تقرر مستقبل إيران هم جهلة أو خونة». السؤال المطروح الآن وبإلحاح: إلى أين يمكن أن تقود المواجهة الراهنة بين خامنئي وروحاني في ظل الخلل الكبير في موازين القوى بين الطرفين؟ في رأينا تستوجب الإجابة على هذا السؤال مراجعة عدد من السيناريوات، أبرزها: السيناريو الأول: يمكن أن يحقق روحاني الأهداف التي يصبو إليها إذا توفي خامنئي تحت تأثير مرض السرطان الذي يعاني منه أو إذا أجبرته أوضاعه الصحية على التقاعد. يمكن أن يستغل روحاني ورفسنجاني الفترة الانتقالية للسير قدماً في سياسة الانفتاح الاقتصادي داخلياً ودولياً. السيناريو الثاني: على رغم عدم بروز شخصية جذابة لمنافسة روحاني في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فمن الممكن أن يلجأ خامنئي إلى منع روحاني من الترشح لرئاسة ثانية من خلال استعمال الأدوات التي يتيحها النظام للموافقة على المرشحين. ويجرى التلميح إلى إمكان عودة محمود أحمدي نجاد أو ترشيح الجنرال قاسم سليماني لخوض الانتخابات بدعم من خامنئي شخصياً. السيناريو الثالث: من الممكن تصور تخلي القاعدة الشعبية الداعمة لروحاني عنه في الانتخابات المقبلة وذلك تحت تأثير الإحباط الذي ستصاب به انطلاقاً من فشله في تنفيذ الإصلاحات الموعودة. في الاستنتاج العام، يبدو أن طهران قررت إضاعة الفرصة الذهبية التي حصلت عليها جراء الاتفاقية النووية من أجل الانفتاح على العالم والمحيط ومعالجة مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية. لا يمكن توقع حصول أي تغيير في بنية السلطة أو في آلية صنع القرار لتوفير الظروف الملائمة لفتح قنوات الحوار مع الخارج، في ظل استمرار سيطرة المحافظين أمثال خامنئي وجنتي على مفاصل القرار في طهران. * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية