كتب الصديق ياسين الحاج صالح مادة بعنوان «نظرة متعاطفة إلى مأزق تركي راهن» (الحياة 13 حزيران/ يونيو 2010) لا غنىً عن العودة إليها طالما أن المقام لا يتسع لتكثيفها ومناقشتها. فهي على ما فيها من توصيف دقيق لتركيا وعلمانيتها، أرى خطأها الأساس يكمن بانطلاقها من أن ما يسميه «تاريخها البنيوي» ألغى شرقيتها لصالح غربيتها. ومن هذا الخطأ تولدت أخطاء فرعية، لعل أبرزها أن حزب العدالة والتنمية هو الذي أقحم تركيا في صراعات المنطقة. لكنّ الحقيقة أن موقعها الجغرافي، بما يكتنفه من عناصر تولدت بفعل صراع الشرق والغرب فيه وعليه، هو ما «أقحم» تركيا في هذه المشاكل عبر حزب العدالة والتنمية. فتدخلها فيها أراه طبيعياً طالما أنها بمعظمها شرق يتطور ونحن شرق متخلف يطمح إلى التطور، أما النأي بنفسها عن التدخل فهو الشذوذ.. وسأبدأ من البداية. يشكل القسم «الغربي»، الأوروبي، 5 في المئة من مساحة تركيا ويعيش فيه 8 في المئة من السكان. ومعلوم أنه منذ أتاتورك والنخب السياسية المسيطرة تحاول غربنة كل ما هو شرقي فيها. وبالتالي يمكن القول تجاوزاً إن القسم الغربي ظل يسيطر على الشرقي، ويحاول اجتثاث شرقيته، حتى مطلع القرن الحالي. ولأن تركيا واحدة، وشرقيتها مكوّن أصيل فيها، فشل... وكان بروز حزب العدالة والتنمية دليلاً على هذا الفشل. إلا أن نجاح شرقيتها في إثبات ذاتها لم يعن إعلان الحرب على كل ما هو غربي فيها، بل السعي الدؤوب لاستئصال كل ما هو مغلوط في نظرة الغرب إلى الشرق... المؤسّسة لتعامله معه. تمثل هذا السعي داخلياً بالعمل التدريجي على الخلاص من «الديموقراطية العلمانية» باعتبارها مبضع استئصال أهم ما هو شرقي في تركيا، إسلاميتها. فهذه الديموقراطية أداة دستورية لممارسة الديكتاتورية على المسلمين، إذ لا فرق مثلاً بين فرض الأصوليين الإسلاميين لارتداء الحجاب وفرض العلمانيين الأتراك لنزعه. بهذا المسار أخذ المجتمع التركي يبني ديموقراطية مدنية على أنقاض الديموقراطية العلمانية، مما يفسح المجال أمام بروز وجه شرقي جديد لبلد مسلم تكون العلاقات الديموقراطية فيه ضمان استقراره واضطراد تطوره. وهذا الانتصار للغرب والشرق هو هو التكامل بينهما الذي يتحدث المفكرون والمثقفون عن صحته النظرية، لئلا يروه حين يصير واقعاً. هذا السعي إلى التكامل الداخلي سيظل يظلع مالم ينعكس خارجياً، لذا من الطبيعي أن تعمل على تصالح الغرب والشرق في محيطها. هذا أساس «عدائها» لإسرائيل، ومنطلق موقفها من «برنامج إيران النووي». هذا الترابط بين سعيها الداخلي والخارجي جليٌّ في الحالتين: عندما كانت غربيتها تحاول محق شرقيتها، كان موقفها من إسرائيل متماهياً مع الغرب، وعندما تصالحتا تبنت تجاهها موقف تصالحهما. فهي لا تعاديها من منطلق النظرة الأصولية لشرقنا، «القضاء عليها»، بل من موقع السعي إلى وضع حد لرفضها السلام، خصوصاً مع الفلسطينيين. فموقفها لا يتناقض مع أساس موقف الغرب، بل يجمع بين رغبة الفلسطينيين والعرب في السلام العاجزين عن فرضه، وبين قدرة الغرب على الفعل وامتناعه عنه، تواطؤاً أو لامبالاةً.. فهي إذن تصارع السياسة الإسرائيلية وهي تستنجد بالغرب، الأوروبي خصوصاً، وتضغط عليه للتدخل. فما هي ماهية هذا الصراع؟ لا شك في أن طبيعته لا تنفصل عن المرحلة التي يتم فيها، العولمة. وقد جاء هذا الصراع بعدما عجز كل المعنيين عن إيجاد حل سياسي ينهي سحق إسرائيل للفلسطينيين. وفي المقابل لا علاقة سياسية لتركيا تاريخياً بهذا الصراع، فبدا تدخلها نوعاً من حشر الأنف... لتعدد تفسيراته: رأته إسرائيل أنها تريد الدخول إلى المنطقة العربية على أكتافها، أما الإسلاميون ففسروه بأن تركيا الإسلامية لا يمكن أن تظل مكتوفة الأيدي تجاه ما يفعله اليهود بالمسلمين. وبين هذين الموقفين، هناك من اعتبر حزب العدالة والتنمية يعبر عن إسلاميته بهبوبه لنجدة «حماس»، وآخر رآه تنسيقاً مع الولاياتالمتحدة لاستقطاب العرب بعيداً عن إيران. ويكاد الكل يجمع على أن لها مصالح اقتصادية عندنا تعمل على تحقيقها. ومع أن لها هذه المصالح فعلاً، لكنه تفسير لا يقل غرابةً عن سابقاته طالما أن كل الدول، ذات المصالح الاقتصادية عندنا، تحققها بالتمام والكمال وهي تؤيد إسرائيل ضدنا. ما يعني أن تركيا لا تمثل دور مصارعة إسرائيل لتحقيق هذه المصالح، بل تصارعها لأن هذه طبيعتها. وانطلاقاً من هذه الطبيعة لا تحابي إسرائيل كالغرب، ولا تصارعها بطريقة المشرقيين - أنظمةً ومقاومات إسلامية وأصولية، بل بتوليف نوعي جديد ينبع من طبيعتها وطبيعة المرحلة. فالحل السياسي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وصل إلى طريق مسدود في ظل العولمة، التي من طبيعتها أن تقرّب بين البشر ليتفاهموا، على رغم اختلافاتهم وخلافاتهم والتناقضات الفعلية القائمة بينهم. في هذا الجو، برزت مأساة الفلسطينيين نشازاً عنه وفيه. صحيح أنه لا حل سياسياً لها، لكنّ هذا لا يعني أنه لا حل لها. فقد بادر الإنسانيون إلى اجتراح الحل، وكانت ظاهرة النشطاء المدنيين. فنجاح هذا المدخل الإنساني بتحريك مأساة الفلسطينيين من الحلقة المفرغة التي تدور فيها، بعدما أجهضت إسرائيل كل سياسة المقاومة المسلحة والمفاوضات، يدل على أن المستوى الإنساني بات المدخل إلى الحل السياسي. هذا ما رأته تركيا، فشرعت تدعم الناشطين، وحدث ما حدث مع «أسطول الحرية». فهل هي في مأزق؟ سياسياً، نعم. لكن صراعها معها ليس سياسياً، بل إنسانياً. ولهذا دخلت إلى حلبة الصراع من هذا الباب، فنددت بإسرائيل لفرضها وضعاً لاإنسانياً على أهالي غزة، ودعمت النشطاء الإنسانيين في سعيهم لفك الحصار، وبعد مجزرة «مرمرة» طالبت بمحاكمة القادة الإسرائيليين لارتكابهم جريمة عادية. صحيح أن الخلاف بين دولتين لا يمكن إلا أن يتخذ طابعاً سياسياً، لكنها حاولت تقليله إلى الحدود الدنيا بربطها حل «المشكلة» بينهما بالأمور الإنسانية. بهذا تنخرط تركيا في صراع إنساني طويل مع هذه السياسة الإسرائيلية في شكل مباشر، وبالتعدي مع الموقف الأخلاقي (قل اللاأخلاقي) للغرب الرسمي. على هذا المستوى نراها في طور الهجوم، وهما في موقع يتعذر عنه الدفاع. فمنذ بداية هجومها إلى الآن لم يجرؤ أي مسؤول غربي على إدانة تركيا، وبالتوازي تصير المعبّر الرسمي عن قطاع مهم، لا يني يتوسع، من الرأي العام الأوروبي الذي بذر بذرته الإنسانيون الأوروبيون. ونحن العرب صار بعضنا يتماهى مع الموقف التركي بصيرورته «ناشطاً مدنياً» ضد إسرائيل. وبالنتيجة، بعدما خرج تكامل الشرق والغرب من عنق الزجاجة في تركيا، نرى بعضاً مهماً من البذور الإنسانية الموجودة في كليهما تتجمع في الطاحون التركي. وهذه إحدى أهم فضائل تدخل تركيا، الذي سيستمر، في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. * كاتب فلسطيني