في كتابه «الأدب والميتافيزيقا» (دار توبقال 2009) يمشي عبدالسلام بنعبد العالي إلى جانب عبد الفتاح كيليطو وليس وراءه، أو مقتفياً خطاه. فقد سبق للأول أن ترجم للثاني «الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية» سنة 1985. وحين أصدر بنعبد العالي سنة 1987 كتاب «التفكير الفلسفي بالمغرب» ضمنه دراسات حول بعض أعمال كيليطو، منها دراسة عن كتاب «الأدب والغرابة»، الذي يهتم بالأدب والمفاهيم النقدية، ودراسة عن «الكتابة والتناسخ» الذي يتناول مفهوم المؤلف في الثقافة العربية. وهما، كما يظهر، كتابان يندرجان في الدراسات الأدبية وليس ضمن الدراسات الفلسفية. غير أن بنعبد العالي ينظر إلى علاقة الأدب بالفلسفة من منظور مغاير، لا يبتعد عن منظورات هايدغر، وفوكو، ودولوز، وديريدا... للعلاقة المتينة التي تربط الأدب بالفلسفة. ألم يقل «هايدغر» إن «اللغة هي مأوى الوجود»؟ واللغة هي جوهر الأدب كما أكد سارتر. و أليس من الصعب تصنيف رولان بارت ضمن خانة من الخانات، هل هو فيلسوف؟ أم ناقد أدبي؟ إن استراتيجية الأدب تتشابك باستراتيجية الفلسفة «لتصبحا كتابة تستهدف مراوغة اللغة وتقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها» (ص10). ينتقل بنعبد العالي بعبد الفتاح كيليطو الى ارض الفلسفة، مستعيناً بزاوية نظرية لغوية ومفاهيمية تجريدية تعود أساساً الى اشهر فلاسفة الغرب: بارت، نيتشه، بلانشو، فوكو، ديريدا... فيجعلنا نراجع نظرتنا إلى كيليطو المعروف بدراساته للتراث الأدبي العربي، مع انه لا يهتم كثيراً بالفلسفة وتاريخها، ولا يوظف مفاهيمها، بل إنه لا يشغل نفسه بالمفاهيم المغرقة في التجريد. وعلى رغم ذلك يبرز بنعبد العالي العمق الفلسفي لكتابات كيليطو. فبخصوص كتاب «الغائب، دراسة في مقامة للحريري» (توبقال 1987) يتساءل المؤلف (بنعبد العالي) من هو (ما هو) الغائب في هذه الدراسة؟ وهو واع بأن العالم الذي يقدمه لنا هذا الكتاب يتنافى وهذا النوع من الأسئلة التي تحيلنا إلى عالم «السيمولاكر» كما عرفه «فوكو» في مختلف استعمالاته : «السيمولاكر هو الصورة التافهة ( في مقابل الحقيقة الفعلية)، ثم انه يعني تمثيل شيء ما (من حيث أن هذا الشيء يفوض أمره لآخر، من حيث إنه يتجلى ويتوارى في آن). ثم انه يعني الكذب الذي يجعلنا نأخذ علامة بدل اخرى. وهو يعني أخيراً، القدوم والظهور المتواقت للذات والآخر». يخلص بنعبد العالي إلى إن كيليطو يقصد ب«الغائب» في المقامة، التي تبدأ بذكر الليل، هو الشمس. وعلى رغم ذلك فهي حاضرة حضوراً سيمولاكرياً في القمر، نظيرها الذي أعارته ضياءها. كما أن عالم السيمولاكر هو المرايا، فحكاية الحارث مرآة لحكاية زيد. والغائب أيضاً، وأساساً، هو الريادة في المقامة كجنس أدبي، انه الرائد الأول، أبو المقامة، الهمذاني، الذي لا مفر كل «متصد بعده لإنشاء مقامة من أن يغترف من فضالته». وعلى رغم ذلك فالهمذاني حاضر في صورته، حاضر في الحريري، الذي يحضر هو الآخر في المقامة من طرق بدائله. صحيح أنه هو مؤلفها، إلا انه المؤلف الغائب. ولذلك يؤكد بنعبد العالي، بحروف بارزة، «كثيرون هم الغائبون في كتاب «الغائب». بيد ان كل الغائبين حاضرون» (ص32). وهنا لابد أن نشير إلى أن بنعبد العالي، في دراسته لكتاب «الغائب»، أهمل معلومة أساسية مفادها ان المقامة الني درسها كيليطو هي المقامة الخامسة، التي تبدأ بذكر الليل وتنتهي بذكر النهار. والأحداث المروية فيها تستغرق فترة زمنية تشمل الليل كله وتمتد إلى ما بعد طلوع الشمس، أي «البداية تحت علامة قمر شاحب، والنهاية تحت علامة شمس ساطعة» (من مقدمة «الغائب). وهي معلومات ضرورية للقارئ الذي لم يقرأ المقامة الخامسة. وفي كتاب» أبو العلاء المعري أو متاهات القول « (توبقال 2000) نهج كيليطو قراءة حاولت إظهار الشاعر في «تناقضاته وصراعه بين الإفصاح والإضمار، والانكشاف والإخفاء» (ص35). وهذا هو المدخل الأدبي لفهم الكتابة عند المعري التي تهدف إلى القول بقدر ما ترمي إلى صد القول، فهي« صراع عنيف،عنيد مع ما لا يجوز كتابته، وما لا ينبغي قوله». وهذا هو السر الذي يرفض المعري إفشاءه: «ولدي سر ليس يمكن ذكره/ يخفى على البصراء وهو نهار». وهنا يقول كيليطو : «ومعلوم أن مجرد الإيحاء بخطاب غائب هو دعوة لاستضماره، للتنقيب عنه والكشف عن حروفه الظاهرة» ( ص 48، «الغائب»). ومن المفاهيم التي تضمر أختها النقيض نجد الأنا التي تضمر الآخر، وتعتبره «سراً» ينبغي إفشاؤه. وهنا نقف عند كتاب «لن تتكلم لغتي» الذي يجيب بالأساس عن سؤال « كيف يتصرف العرب مع أدبهم؟ كيف ينظرون إليه؟ (ص17). ويؤول بنعبد العالي هذا السؤال إلى آخر: كيف نظرت الثقافة العربية وكيف تنظر إلى نفسها؟ يجيب كيليطو بالدعوة إلى التمييز بين زمانين ثقافيين، أو بين ذاكرتين أدبيتين: «فإذا كان الأدب الكلاسيكي يحيلني تلقائياً الى الهجرة وفضائها، فإن الأدب الحديث يحيلني عفوياً إلى أوروبا كتقويم وإطار» ( لن تتكلم لغتي، ص12 - 13). وهذه الذاكرة المزدوجة في إدراك الذات تدل على ان هناك «فترة لم يعن للعرب فيها لحظة ان ينظروا من الخارج عبر أدب آخر». وهناك فترة أخرى أصبح فيها العرب «في حاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم، والى مرآة أخرى كي يروا أنفسهم». وأثناء الخوض في هذه القضية الحساسة تحضر مسألة الترجمة بقوة. فالعرب عرفوا حركة واسعة للترجمة، غير أنهم، بحسب كيليطو، كانوا ينظرون إلى الترجمة كعملية تتم في جانب واحد، أي من لغات أخرى (الفارسية، اليونانية، السريانية) إلى العربية، وليس من العربية الى لغات أخرى. وبذلك لم يكونوا يرون أن شعرهم يجوز عليه الترجمة (أو النقل)، وهذا ما يؤكده الجاحظ بقوله « لأن الشعر متى حوّل، تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب فيه». وبذلك فالعرب كانوا يتصورون أن الترجمة الوحيدة هي الشرح والتعليق والحاشية. أي ترجمة داخل اللغة نفسها. والنتيجة أن العرب القدماء ضربوا الحصار على ثقافتهم، فلم يكتفوا بذلك، بل إنهم «حرصوا، عن غير عمد، على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل، فطوروا أساليب تستعصي على النقل». ونتيجة لذلك اقتنع العرب بأن الأدب العربي مكتف بذاته « لا يهم في مجمله إلا العرب» (ص24). ولم ينفجر هذا الاكتفاء الذاتي إلا ابتداء من القرن التاسع عشر، فتغير الزمان الثقافي العربي، وأصبح العرب« في حاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم». فظهر «الشدياق» كنقيض للجاحظ، مدركاً انه لا بد من « معرفة لغة بل لغات إفرنجية». وهذه هي اللحظة المفصلية التي بدأت فيها الثقافة العربية، والزمان العربي عموماً، في التفكير في مغادرة الذات، وبدأت تنظر إلى ماضيها ليس كفترة ذهبية، بل كزمان كلاسيكي.