لعل من المنطقي التقدير أن مشاركة بعض فلسطينيي 1948، بمن فيهم رئيس الجناح الشمالي في الحركة الإسلامية الشيخ رائد صلاح، ورئيس لجنة المتابعة العربية العليا محمد زيدان، والنائبة عن «التجمع الوطني الديموقراطي» في الكنيست حنين الزعبي، ورئيس الجناح الجنوبي في الحركة الإسلامية الشيخ حماد دعيبس، والناشطة في منظمة «غزة حرة» لبنى مصاروة، في «أسطول الحرية» الذي تعرض لمجزرة إسرائيلية في المياه الدولية، ساهمت في رفع منسوب العنصرية والتطرف اليهوديين ضد قيادات الأحزاب والقوى العربية، وأبناء الأقلية الفلسطينية الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية عموماً. كما سلّطت، في المقابل، ضوءاً ساطعاً على أوضاع هؤلاء الذين يعيشون أوضاعاً مركّبة يتصادم فيها انتماؤهم القانوني الممثل في الجنسية التي يحملونها، بهويتهم القومية الممثلة في أصولهم وجذورهم، وذلك تحت ظلال سعي الحكومات المتعاقبة، وخصوصاً الحكومة اليمينية الحالية، الى شرعنة العنصرية والعداء ضدهم من خلال تقديم رزمة من مشاريع القوانين التي تضع علامات استفهام حول مواطنة العرب وتشكل تهديداً إضافياً لمجرد وجودهم في وطنهم، من نمط مشروع القانون المقرّ في الكنيست، بالقراءة التمهيدية، والذي يمنح المحاكم الإسرائيلية صلاحية سحب مواطنة كل من تدينه المحكمة بتهم «التجسس والخيانة والإرهاب»، ومشروع القانون المتعلق بتغيير قسم الولاء الذي يؤديه أعضاء الكنيست بحيث يتضمن الولاء لإسرائيل كدولة يهودية، وذلك توطئة لسلسلة من القوانين التي تربط المواطنة بما يسمى «الولاء للدولة». غير أن هذه المشاركة وتداعياتها لدى الجانب الإسرائيلي، لم تشكل، في الواقع، منعطفاً واضح المعالم في صيرورة الهجوم الإسرائيلي على القيادات والجماهير الفلسطينية في أراضي 1948، والتحريض الدموي ضدهم، لا بل والدعوة، وفي شكل علني، إلى معاملتهم كأعداء، وذلك على رغم اتخاذ هذا الهجوم، خلال المشاركة وبعدها، نمطاً فاشياً سافراً عبّر عن نفسه، أولاً، بقتل الجنود الإسرائيليين شخصاً يشبه الشيخ رائد صلاح على ظهر السفينة «مرمرة»، ما يذكّر بتصفية خلية من «الموساد» شاباً جزائرياً في مدينة ليلهامر النروجية عام 1972 ظناً منها أنه رئيس جهاز الأمن في حركة «فتح» أبو حسن سلامة، ليلي ذلك توجيه تهم بالغة الخطورة الى الشيخ صلاح ورئيس لجنة المتابعة العربية محمد زيدان، ومن ثم التهجم الوحشي العنصري على النائبة حنين الزعبي، واعتبارها «خطراً على دولة إسرائيل»، قبل أن تقرر إحدى لجان الكنيست سلبها حقوقها البرلمانية، وذلك بموازاة تلقيها مئات من التهديدات بواسطة الهاتف والبريد الإلكتروني، ووصول التحريض ضدها أيضاً إلى حيّز «الفيس بوك»، حيث أُنشئت مجموعة ل «إعدام حنين زعبي»، وكذلك تلقي النائبين أحمد الطيبي وطلب الصانع تهديدات مماثلة. ومع الإدراك التام لحقيقة أن حكومة نتانياهو التي اضطرت، تحت الضغط التركي والدولي، إلى الإفراج عن الناشطين والسفن المشاركة في «أسطول الحرية» من دون قيد أو شرط، لم تجد مكاناً تنفس فيه احتقانها سوى ضد فلسطينيي 48 الذين شاركوا في هذا الأسطول، وفي هذا الشكل البربري، إلا أن ذلك لا يحجب واقع سيطرة التعصب والتطرف والانغلاق على المجتمع الإسرائيلي، وسعي الحكومة الحثيث نحو ترجمة شعار «يهودية الدولة» على الأرض من خلال التضييق على الأقلية الفلسطينية، وإشاعة خطاب التخويف والترويع واللعب على الغرائز البدائية، إلى جانب فبركة الاتهامات الأمنية والجنائية للكثير من القادة والناشطين العرب. ويكفي التذكير، في هذا السياق، ب «الهمروجة التحريضية» التي طاولت، قبل أشهر، رئيس الكتلة البرلمانية ل «التجمع الوطني الديموقراطي» في الكنيست النائب جمال زحالقة، ووصلت إلى حد المطالبة بفتح تحقيق جنائي ضده، بسبب قوله، خلال مقابلة تلفزيونية شهدت نقاشاً حاداً وتهجماً شخصياً ضده من جانب الصحافي دان مرغليت، إن «وزير الأمن الإسرائيلي، ايهود باراك كان يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية ويقتل الأطفال في غزة». والإشارة كذلك إلى اتهام النيابة الإسرائيلية العامة رئيس جمعية «اتجاه» أمير مخول، ورئيس لجنة الحريات العضو في «التجمع الوطني الديموقراطي» عمر سعيد بتزويد «حزب الله» معلومات حول أماكن القواعد العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وأنظمة الحراسة والذخيرة فيها، ومرافق المخابرات العامة و «الموساد» ومقر هيئة الأركان العامة في تل أبيب، وموقع بيت رئيس «الشاباك» الحالي، وأنظمة حماية قافلة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ووزير الحرب ايهود باراك، ومعلومات خاصة عن مهاجرين من روسيا وأوروبا الشرقية يواجهون أوضاعاً اقتصادية صعبة لتجنيدهم لمصلحة الحزب. وبخلاف تقديرات الذين يحاولون تقزيم هذه الأمثلة وشخصنتها وحصرها ببعض النواب والناشطين الذين تعمل السلطات الإسرائيلية على «تأديبهم»، فإن ثمة معطيات ميدانية تؤشر بوضوح الى أن السياسة الإسرائيلية المعتمدة حيال فلسطينيي 48 تهدد ما يسمى «الهدوء النسبي» السائد، وتساهم في تعميق الفجوة ما بين الرؤية الإسرائيلية لحقيقة الدولة العبرية وطموحها في أن تكون دولة يهودية شكلاً وموضوعاً وبين رؤية حل الصراع العربي - الإسرائيلي ومطالبة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل بحقوقها الوطنية والاجتماعية والسياسية. وبحسب ما يسمى «معيار العلاقات» بين اليهود والفلسطينيين العرب الذي أجراه البروفسور سامي سموحة في السنوات 2003 – 2009، ونشره أواخر الشهر الماضي، فإن 48 في المئة من فلسطينيي 48 غير راضين عن حياتهم في الدولة، بالمقارنة مع 35 في المئة في العام 2003. كما تضاعفت نسبة الفلسطينيين ممن ليسوا على استعداد لاتخاذ صديق يهودي من 16 في المئة إلى 29 في المئة، في الفترة ذاتها. ويشير المعيار ذاته إلى أن 62 في المئة من هؤلاء الفلسطينيين يخشون من الترانسفير (نكبة ثانية)، في مقابل 55.5 في المئة في العام 2003. كما أن نسبة من هم على استعداد للانتقال إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية قد ارتفعت من 14 في المئة في العام 2003 إلى 24 في المئة في العام 2009، وذلك في مقابل تراجع في نسبة التأييد ل «حل الدولتين» من 90 في المئة مطلع العقد الحالي إلى 65 في المئة، في حين يقول 40 في المئة إن ليس لديهم ثقة بالجهاز القضائي، و 40.6 في المئة يؤيدون مقاطعة انتخابات الكنيست، بالمقارنة مع 33 في المئة في العام 2003. ووفق المعيار، فإن ثمة تراجعاً في نسبة الفلسطينيين الذين يعتقدون أن إسرائيل لا تتعامل مع العرب في شكل ديموقراطي من 50 في المئة إلى 63 في المئة. وحول استخدام كل الوسائل، بما في ذلك الوسائل العنيفة، في التظاهرات وأعمال الاحتجاج، فإن نسبة من يؤيد ذلك ارتفعت من 5.4 في المئة في العام 2003 إلى 14 في المئة في العام 2009. كما يشير المعيار إلى ارتفاع متواصل في نسبة الفلسطينيين المشاركين في التظاهرات، المرخصة وغير المرخصة، وفي شكل خاص في ذكرى النكبة ويوم الأرض. ما تمكن قراءته في هذا المشهد المضطرب هو أن تشديد القبضة الإسرائيلية على فلسطينيي 48، وممارسة سياسة فاشية عنصرية ضدهم، يحملان في طياتهما ما هو أخطر بكثير من مجرد تعكير «الهدوء النسبي»، حيث يؤشر واقع الحال الى أن هؤلاء الفلسطينيين لم يتمكنوا من التأثير في سياسة التمييز الممارس ضدهم، والتي تحولهم إلى أقلية من الدرجة الثالثة أو السابعة، نتيجة التهجير القسري وتدمير القرى ومصادرة الأراضي، وتحول حال العداء ضدهم إلى عنصرية في الشارع وفي المؤسسات وفي الميادين الأخرى، فضلاً عن النظر إليهم ك «خطر ديموغرافي» يهدد جوهر الدولة كدولة يهودية، ما يساهم في ارتفاع منسوب كفاحهم من أجل الحفاظ على هويتهم الوطنية وحقوق القومية والثقافية، إلى جانب التركيز على حقوقهم الأخرى في المساواة والعدالة الاجتماعية، وذلك في مقابل ارتفاع الأصوات الرسمية والحزبية والاستخباراتية الإسرائيلية التي تعتبرهم «خطراً استراتيجياً» ينبغي التعاطي معه بطريقة جديدة يمكن من خلالها تغيير قواعد اللعبة، ولو أدى ذلك إلى «قرارات مصيرية» قاسية من نمط «نزع المواطنة» التي تمهد لإعادة إنتاج الترحيل والتهجير على غرار ما حصل منتصف القرن الماضي! * كاتب فلسطيني.