كأن ثمة حاجة من آنٍ لآخر للعودة إلى بعض الأبجديات في التسيس الشرق اوسطي. وفيما تبدو الأبجديات تلك وكأنها جديدة، فهي ليست سوى إعادة تشكل لما كانته دوماً لكن في قوالب أحداث ولاعبين جدد. صعود النفوذ والدور التركي في الآونة الأخيرة، وآخر تجلياته «سفينة الحرية» ومنعكساتها، يؤكد حقيقة كبرى وأبجدية شرق أوسطية، وهي أن فلسطين ما زالت هي القضية المفصلية على رغم الضيق والملل الذي يعبر عنه كثيرون إزاء استمرارها. هي التي تتقاطع فيها اهتمامات واحاسيس وتضامن الشعوب مع مصالح الدول وتحالفاتها. الأتراك الجدد والإيرانيون الجدد والقدامى يدركون هذا ويستغلونه، كما أدركته أنظمة عربية ثورية ومحافظة في حقب وعقود متتالية ماضية. التجربة التاريخية خلال تلك العقود تفيد بدرس مركزي ومرير وهو أن فلسطين وقضيتها وُظّفت من قبل كثيرين، دول ومنظمات وتيارات وأيديولوجيات، لغايات ليست لها علاقة بتحرير فلسطين أو تحقيق الأهداف الوطنية للفلسطينين. كانت فلسطين قميص عثمان الذي تستخدمه أنظمة عربية مُتنافسة وناقمة على بعضها بعضاً. لكن كانت أيضاً جهوداً مخلصة وصادقة سواء في الدعم أو الاهتمام، حتى وإن لم توفق في ان تترجم ما أرادته على الأرض. الآن نشهد فصلاً جديداً من فصول الصراع على النفوذ الإقليمي وتقع فلسطين في قلبه مرة أخرى. هناك تشابهات تكرر الماضي القريب وتنافساته واستخداماته لفلسطين، لكن هناك أيضاً فروقات جوهرية وهامة. الفرق الأول هو أن حلبة التنافس على «القيادة الإقليمية» الذي يستخدم فلسطين بوابة للنفوذ والدور الإقليمي اتسعت لتضم دولاً غير عربية صارت هي التي تتصدر المشهد مخلفة وراءها الدول العربية حتى الكبيرة منها. فهنا وكما نرى جميعاً تحتل تركيا وإيران الصف الأول في ميدان ذلك التنافس، بما يمكّن من القول إن المنافسة، حتى الآن على الأقل، محصورة بين هاتين الدولتين. يُرصد هذا الإقرار بمقدار عظيم من المرارة والتأسي على اتساع رقعة الفراغ القيادي الإقليمي التي خلفها تراجع دور الدول العربية الأهم، بما أتاح ويتيح لتركيا وإيران التقدم بقوة لملئه. فما نراه عملياً، وباستخدام لغة كروية تناسب مناخ كأس العالم الحالي لكرة القدم، هو وجود فريقين تركي وإيراني يتباريان على أرض ملعب العرب، فيما يتراجع كل العرب إلى مقاعد المتفرجين والمصفقين لمن يحرز الأهداف. لقد تجوف الوضع القيادي العربي بطريقة مدمرة في آلية تهميش ذاتي مذهلة جوهرها الرغبة في السلامة والقعود على الحوافي والانكفاء على الذات وترك المركز القيادي للآخرين. ولأن طبيعة السياسة لا تقبل الفراغ، وتعريف الدائرة يحتاج إلى مركز بالبداهة، ولتعديل الاختلال البنيوي البارز للعيان، جاءت الفكرة التي طرحها عمرو موسى، الأمين العام للجامعة العربية، حول «رابطة الجوار العربي»، واقترح من خلالها صيغ تعاون إقليمي تؤطر دور ونفوذ تركيا ولاحقاً إيران في الفضاء العربي. لن تنجح هذه الفكرة لأسباب عدّة ليس هذا مجال تفصيلها، لكن أهمها هو عدم تناسب قوة هذين البلدين مع ضعف العرب، بما يجعل أي صيغة مطروحة لا تتعدى تسليم القيادة العربية رسمياً إلى أي من البلدين أو كليهما معاً. الفرق الثاني في مشهد التنافس الإقليمي الراهن والذي يستخدم فلسطين بوابةً للنفوذ الإقليمي، مفارقاً إياه عن التنافسات المشابهة في العقود الماضية، هو أن الدول التي تقف في مقدم هذا التنافس (تركيا وإيران) تتمتع بمصادر قوة لا يُستهان بها، بخلاف ما كانته البلدان العربية ولا تزال عليه من ضعف عند استخدامها فلسطينَ بحق أو بغيره لتحقيق أهدافها الخاصة. «العثمانيون الجدد»، وبحسب تصريحات بعض قادتهم، يشتغلون ضمن رؤية استراتيجية كبرى وطموحة تهدف إلى ترقية تركيا على سلم النفوذ العالمي كله، ووضعها في قائمة الدول الكبرى. وهم يرون أن دورهم المتعاظم في الشرق الأوسط، وبوابته فلسطين، يصب في تحقيق تلك الرؤية. وتركيا بطبيعة الحال دولة قوية اقتصادياً وعسكرياً ولا يستهان بها، فضلاً عن عضويتها في حلف الأطلسي وعلاقاتها الغربية. وتوصيف القوة ينطبق ايضاً على إيران وإن كان بدرجات أقل ومن زوايا مختلفة. فإيران لها رؤيتها الخاصة، المؤدلجة دينياً، حول موقعها الإقليمي وما تراه من ضرورة توسيع نفوذها وأذرعها في اتجاهات مختلفة، وباتجاه فلسطين في شكل خاص. ويسبق ذلك بطبيعة الحال ويُضاف إليه ملفها وطموحها النووي الذي بات الهم الأول للغرب وإسرائيل في الشرق الأوسط. كلتا الدولتين القويتين تدرك أهمية ومركزية المسألة الفلسطينية إقليمياً وشعبياً، ولناحية النفوذ، ولذلك نرى التسابق باتجاهها. وهكذا وبسبب انخراط هاتين الدولتين في ذلك السباق نرى ان منعكساته تتجاوز الإقليم، وتتجاوز ما خلّفته تجربة سباق الدول الثورية وغير الثورية العربية على استخدام قضية فلسطين وتوظيفها في صراعات النفوذ الإقليمي. ففي الحالة الجديدة يؤثر هذا السباق ويقلق إسرائيل أكثر بكثير من الحالات السابقة، مرة أخرى بسبب قوة هذه الدول. ويقلق هذا السباق ومنعكساته على إسرائيل الدول الغربية في شكل جدي لذلك نرى المتابعة الأميركية والأوروبية اللصيقة لما يحدث شرق أوسطياً لجهة توسع النفوذ التركي أو الإيراني أو كليهما معاً وتأثيراته في إسرائيل. الفرق الثالث في حالة التسابق على النفوذ الإقليمي الراهن يتمثل في خصوصية الدور والتطلع التركي لجهة قدومه من مربع التحالف مع الغرب، وليس معاداته. في الحالات السابقة كان معظم إن لم يكن كل الدول ذات الصوت الأعلى ثورية في توظيف القضية الفلسطينية يقف في المربع المعادي للغرب من ناحية سياسية وأيديولوجية او لفظية. اما في الحالة التركية فإن الأمر يختلف في شكل مثير ويقلب الأوراق في الوقت ذاته ويقدم رسالة في غاية الأهمية، وهي إمكانية رفع سقف تأييد القضية الفلسطينية واختراق ما قد يتبدى حدوداً صلبة في ربط العلاقة التحالفية مع الغرب مع خفص السقف السياسي في النفوذ الإقليمي تجاه فلسطين. بكلمة أوضح، وكما أثبت المثال التركي، يمكن دولاً عربية كثيرة مترددة تبني سياسة ومواقف قوية وصارمة إزاء إسرائيل مع الإبقاء على علاقة قوية مع الغرب. الفرق الرابع الذي يمكن رصده هنا هو وجود الإعلام المعولم والحركات العالمية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، وهي حركات تتمركز أساساً في عواصم الدول الغربية (لا الدول الشرقية، أو في منظومة الاتحاد السوفياتي سابقاً ومرتبطة بالأنظمة تحديداً). هذه الحركات التي تنطلق من إنسانوية وحقوقية وعدالة القضية الفلسطينية تنشط على شكل شبكات معولمة تستغل الإعلام غير الرسمي والفضائي والإنترنت وآليات التواصل الحديث في شكل مذهل، بما يعزز ايجابياً فعل أو موقف أي طرف من الأطراف ذات العلاقة بفلسطين، ويفضح أي فعل أو موقف سلبي أو متخاذل. وينعكس النشاط التضامني المعولم والذي ينتشر إعلامياً على مواقع الدول والأطراف المختلفة من قضية فلسطين، ويشجع الأنظمة على الاستمرار في أو الإحجام عن تبني سياسة معينة. كل ما سبق يعني الخلوص إلى نتيجة أساسية معروفة مسبقاً لكن يتجدد توكيدها من آن لآخر وتتمثل في مركزية وديمومة قضية فلسطين إلى أن تتحق الحقوق الدنيا على الأقل من عدالة حقوق شعبها. وهذه النتيجة يجب أن يُعاد تذكير الدول العربية بها، وبخاصة الكبرى، بما يدفعها لتبني استراتيجيات إقليمية جديدة تعيدها إلى قلب الدائرة وتنهي تواجدها الهامشي على الأطراف. وليس من المفترض أن تكون الاستراتيجيات المطلوبة خارقة لحدود السياسة الواقعية والإمكانات، بل مما تتيحه تلك السياسة، وما يمكن بالفعل وعلى الأرض تحقيقه، ومن خلال فلسطين وقضيتها كبوابة قيادية أيضاً. يمكن الدول العربية الكبرى أن تعيد التقاط زمام القيادة الإقليمية من خلال قرار عربي بفك الحصار على غزة، وتحقيق المصالحة الفلسطينية، وتجاوز شروط اللجنة الرباعية، والشروع في استراتيجية هجومية على أساس مبادرة السلام العربية وحشد التأييد العالمي لها على قاعدة استثمار المناخ الحالي. كل ذلك مُتاح وليس خارج حدود القدرة العربية. وهو يخدم الحضور العربي ويعيد العرب إلى قيادة السياسة في منطقتهم، ويخدم الفلسطينين وقضيتهم بطبيعة الحال. * محاضر واكاديمي فلسطيني - جامعة كامبردج . [email protected]