إذا استثنينا فيلم الألمانية مارين آدي «طوني إردمان» الذي وحده حقق حتى الآن إجماعاً بوصفه تحفةً استثنائية على أكثر من صعيد، وربما إذا استثنينا أيضاً فيلم جيم جارموش «باترسون» وفيلم «مالوت» للفرنسي برونو ديمون، من الصعب أن نجد بين نحو دزينة من أفلام جيدة عُرضت حتى الآن في دورة «كان» الحالية، تحفاً من النوع الذي كان منتظراً. هناك أفلام مميزة بالتأكيد، وهناك أفلام جيدة في وقت تجاوز المهرجان نصف أيامه وبدأ يقترب من خاتمته... لكن التحف الكثيرة والكبيرة لم تأتِ بعد. هل ستأتي؟ إذا حكمنا على الأمور من خلال الخيبة التي شكلها فيلم «خولييتا» للإسباني بدرو ألمودوفار، ونصف الخيبة التي شكلها فيلم «آميركان هاني» للبريطانية آندريا آرنولد، يمكن لأي جواب منذ الآن، على هذا السؤال ألا يكون قاطعاً... ومع هذا كثر لا يزالون يأملون، وفي الإنتظار، بدلاً من أن يتحدثوا عن الأفلام نفسها وعن مكانتها في أعمال مبدعيها، يتوقفون عند أدوار كبيرة لافتة رُسمت لممثلين معروفين أو حتى مجهولين أو بين بين، أدوار أبدع أصحابها في أدائها حتى ولو في أفلام وصفت بأنها «ضعيفة» أو «مخيبة». هذا ما يحدث مثلا بالنسبة إلى الفاتنة آلكسانرا ستيوارت التي حملت وحدها فيلم الفرنسي أوليفييه السايس «مشترية الأشياء الشخصية» على كتفيها لتضيء عتمة الفيلم بحضورها وتضفي على موضوعه غير المقنع، رهافة وصدقية مفاجئة. ففي دور مساعدة لعارضة أزياء عالمية، تُقدّم ستيوارت إلينا توأماً لشاب مات من جراء تشوه خلقي في القلب، وها هي الآن تسعى للاتصال به بعد موته. من حول هذا الموضوع إذاً، ركّب السايس مستعيناً للمناسبة بنصوص من فكتور هوغو، فيلماً جوبه باستهجان الجمهور، الجمهور نفسه الذي كان حبس أنفاسه طوال ساعتي الفيلم، أمام أداء من الممثلة الشابة عوّض تهافت حكايته. بطلة فيلم «طوني إردمان» ساندرا هوللر لفتت الأنظار بأدائها في دور موظفة رفيعة في مؤسسة معولمة تجد نفسها ملاحقة من أبيها الساخر الفوضوي (بيتر سيمونيشيك). ولكن لئن كان طبيعياً لهذا «الثنائي» الذي يبدو مجدداً في السينما الألمانية، على الأقل من ناحية الأداء الكوميدي غير المسبوق في بلد يقال دائماً أن آخر ممثل كوميدي بارع فيه كان آدولف هتلر، فإن ثنائياً آخر، أميركياً هذه المرة، لفت الأنظار بقوة، ولا سيما بتميّزه في فيلم لم يلقَ الكثير من ردود الفعل الجيدة، مع أنه كان من الأفلام المعوّل عليها. فالفيلم هو «لافنغ» من إخراج جيف نيكولز المعتبر نجماً صاعداً في السينما الأميركية والذي سبق له أن شارك في «كان». والحقيقة أن «لافنغ» لا يمكن اعتباره فيلماً سيئاً، لا سيما أنه يتطرق في موضوعه إلى القوانين العنصرية الأميركية كما كانت سائدة في سنوات الخمسين من القرن الفائت. والفيلم مبني على حكاية حقيقية بطلها المعماري الأبيض ريتشارد لافنغ، الذي أغرم بحسناء سوداء واقترن بها وبدآ يكونان عائلة حين يكتشفان أن قوانين ولاية فرجينيا التي يعيشان فيها تمنعهما من العيش معاً، وتحكم عى أصحاب الزواج المختلط بالسجن... فيبدآن سلسلة من المنافي الداخلية والإجراءات الإدارية والمحاكمات والاعتقالات حتى تنتصر قضيتهما بعد عشر سنوات، أصرا فيها على العيش معاً والكفاح معاً والصمت معاً والصبر معاً، بحيث باتت حكايتهما حكاية حب رائعة خدمها الفيلم بنزاهة كلاسيكية واضحة، لكن من دون لمعات فنية حقيقية. وحدهما بطلا الفيلم، النيوزيلندي الأصل جويل إدجرتون، والإثيوبية الأصل روث نيغا، تبديا في أدائهما مميّزين في الفيلم، لا سيما بالعلاقة البديعة التي ارتسمت بينهما. ولعل كلاماً مثل هذا كان يمكن أن ينطبق على بطلي فيلم جيم جارموش «باترسون»، الأميركي آدم درايفر، والإيرانية الحسناء غولشيفتي فرهاني، فهما أيضاً شكلا ثنائياً بديعاً، لكن هذه المرة في فيلم يمكن اعتباره منذ الآن من العناوين التي سيصعب على لجنة التحكيم أن تتجاهلها يوم الختام... كما لا بد من النظر إليه على أنه يشكل عودة قوية لسينما جارموش البديعة في بساطتها الخادعة، والشاعرية في لغتها، بالمعنى الحرفي للكلمة.